قلم فاطمة الكحلوت
إنها الغربة يا عزيزي أن نعيش معا ولا نرى بعضنا إلا دقائق قليلة وأن لا نتكلم إلا بكلمات محدودة ورسمية … أخذت نفسا عميقا ثم زفيراً إلى الأعلى وبعد تنهيدة طويلة لا بأس سأكون على ما يرام ،سرت إلى الموقف الذي يبعد عن منزلنا بشارعين، في البداية أخذت أعد خطواتي خطوة خطوة كان الجو بارد ومعطفي يتطاير من جوانبه كما أن دخان السيارات المارة من جانبي تجعلني أضع إيشاربا على أنفي كي لا أختنق .
أتامل الأشخاص المارةفي الشارع الأول وفي الشارع الثاني أومأت رأسي إلى الأسفل أنظر الى زخات الأمطار الخفيفة وهي ترتطم بالأرض أميز المارة من أحذيتهم إن كانو رجالا أم نساء وأسمع أصواتهم عندما يسيرون بالقرب مني وصلت الموقف كان هنالك مجموعة كبيرة من الأشخاص الذين ينتظرون قدوم الباص الكل يتهامس عن الجو البارد بينما أقف مطأطأة الرأس يغلبني النعاس فأنا لم أنمْ ليلة الأمس بشكل جيد، لقد أصبحت أرهق جسدي كثيرا بالسهر الطويل ،وقفت بجانبي إمرأة عجوز وما إن رفعت رأسي قابلت عيناي عيناها فابتسمت لي قابلتها بابتسامة أخرى.
وقف الباص صعدت في البداية سيدة ثلاثينية معطفها أحمر ثم رجل بالخمسين من عمره ثم جعلت السيدة العجوز تتكئ علي لتصعد ثم صعت أنا جلست بجانبها لم أجلس هذه المرة عند النافذة فقد أخذت مكاني تنظر إلي وتبتسم ترمقني بنظراتها أثارت إعجابي نظرت إليها وسالتها –إلى أين ستذهبين ابتسمت لي وعادت تنظر إلى النافذة ولم تجبني على سؤالي بدأ الباص يتوقف عند كل محطة لينزل الركاب كانت مدرستي هي الأبعد مسافة بينهم بقيت المرأة العجوز ولم تنزل كانت مستمرة بالنظر من النافذة بوجه مبتسم، وعند وصولنا المدرسة حملت حقيبتي لأنزل من الباص دفعت الاجرة للسائق ادرت ظهري لانظر الى المراة العجوز مرة اخرى قبل نزولي كانت منهمكة بالنظر الى النافذة.
سرت بخطوات ثابتة باتجاه باب المدرسة لكنه استوقفني صوت رجل غريب ينادي علي –يا آنسة توقفي لو سمحتي التفت لأرى من يكون كان سائق الباص عدت أدراجي إليه وقلت له – ماذا تريد فأجابني بسؤال هل تعرفين هذه السيدة العجوز من تكون ؟ لكنني قلت له –لا ،لا أعرف وأدرت ظهري لأذهب الى مدرستي سرت خطوتين إلى الأمام لكن إبتسامة تلك المرأة العجوز حركت شئ ما بداخلي تجاهها لربما أنني شعرت بالعطف والرأفة عليها فليس علي أن أتركها وأرحل دون أن أطمئن عليها عدت أدراجي إليه وقلت له –يا سيدي لا أريد أن أتركها وأردفت قائلة ولن أذهب إلى اي مكان حتى أطمئن عليها.
شكرني سائق الباص وقال لي أنه لا يعلم كيف سيشكرني على هذا المعروف ثم سألني –لكن ماذا عن دوامك فقلت له لا يهمني الآن سوى إرجاع هذه العجوز إلى منزلها ركبنا الباص وبدأ يسير بنا سنعود إلى المحطة الأولى ،حيث ركبت العجوز وجلست إلى جانبها وأخذت أسألها وأحاول أن أجعلها تتحدث –إلى أين تريدين الذهاب –ما هو إسمكِ –من أين أنتي؟ لا أعلم إن كانت صماء أم لا فهي لم تتحدث بكلمة واحدة كانت المناظر التي تنظر إليها من النافذة أهم بكثير بالنسبة إليها من أين ستذهب ،كان المطر يتساقط بشكل متفرق.
السيارات تسير ببطئ خشية الحوادث أما عن نفسي أشعر بالقلق من الداخل تجاهها وتجاه عدم ذهابي إلى المدرسة وأنهم سيخبرون والدي بذلك .عم الصمت طريقنا إلى أن نظرت إلي العجوز وقالت لي –أشعر بالبرد توسعت عيناي ونظرت إليها باستغراب وقلت –ليست صماء ناديت على السائق بصوت عال وقلت له –يا سيدي ليست صماء إنها تتكلم شعرت بالارتياح القليل لإنها لم تكن صماء وقلت لها –يا سيدتي ساعدينا لنعيدك إلى المنزل وأردفت قائلة –أعطيني حقيبتك من فضلك لكنها هزت براسها يميناً ويساراً بمعنى الرفض وتمسكت بحقيبتها بقوة خوفا من أن اخذها منها شعرت بأنها تملك فيها شئ غالي الثمن وبعد محاولات إقناع أنني لن آخذ منها شئ سمحت لي بأخذ الحقيبة ،وما إن فتحتها كانت تحوي على أدوية وبعض النقود وأوراق مراجعة عند طيبب وجودت ورقة مطوية أخرجتها من الحقيبة وفتحتها لأقرأها كان مكتوب عليها عنوان المرأة العجوز ومكتوب أيضا من يجدها من فضلك أعدها الى المنزل وشكرا .
رفعت الورقة ووضعتها أمام عيناها لتقرأ الكلام فابتسمت لي وكأنه شعور الطمأنينة بعد الخوف أو ربما تذكرت شئ ما ،لا أعلم ما هو مرضها لربما تعاني من الزهايمر ،أعطيتها حقيبتها فعادت تمسكها بقوة كالسابق وتنظر إلي وتعاود النظر الى النافذة ،مشيت نحو السائق وأعطيته العنوان أخذه بيده مبتسما مسرورا لإننا تمكنا أخيراً من معرفة منزلها ،شكرني وبادلته بالرد هذا واجبي وأنا أعود الى مقعدي نظرت إلى الزجاج الخلفي للباص وجدت أننا ابتعدنا كثيرا عن المدرسة، كان الوقت يمر ببطئ كعجلات السيارات المارة من جنبنا ،يذهب وقت ويأتي آخر ننتقل فيه من مكان إلى آخر فقد أصبحنا نبتعد أكثر عن ضجيج المدينة وبدأنا نقترب أكثر من منزلها أخرجت كتابا وبدأت أقرأ أما هي فقد غلبها النعاس واتكأت على كتفي لتنام .
شعرت بشعور غريب فكيف وأنا بكل هذا الضعف هنالك من يتكئ علي ،وصلنا الحي الذي تسكنه بعد أن بدأت أشعر بالنعاس من طول الطريق وضعت يدي على رأسها لأرفعه عن كتفي وقلت لها بصوت منخفض يا سيدتي لقد وصلنا كنت أحاول إيقاظها بشكل هادئ حتى لا تصاب بالذعر وبالكاد فتحت عيونها فقلت لها -سيدتي لقد وصلنا منزلك أومأتْ بِرأسها وأمسكت حقيبتها واتكأت علي لتتمكن من النزول نزل سائق الباص فقلت له من فضلك سيدي هلا انتظرتني فقال لي -نعم بالتأكيد.سأنتظرك لأعيدك إلى الموقف أكملت سيري فامتلأ حذائي بالطين المبلل بالمطر .
كان المطر ينزل بشكل متقطع ولم يشتد بعد لكن الأرض تبللت بالماء فأصبحت مليئة بالطين اللزج، طرقتُ الباب بعد أن تأكدت من العنوان الموجود على الورقة لكن لم يكن هنالك أحد في الداخل ليفتح لنا عدت لأقرأ العنوان مرة أخرى ظننت أنني أخطأت وما إن رفعت رأسي حتى وجدت السيدة العجوز تفتح الباب وتدخل المنزل.
سرت خلفها عبر ممر مؤدي الى حجرة استلقت فيها على السرير ونامت ،أمسكتُ الغطاء ووضعته عليها فالمنزل شديد البرودة وبعدها خرجت من الغرفة لفت انتباهي قبعة معلقة ع الحائط أسفلها فراش وعليه غطاء لربما هنا ينام الشخص الذي يعيش معها ،تأملتُ زوايا المنزل مليئة ببيوت العناكب كما أن السقف يتسرب منه ماء المطر ،سمعت صوتاً في البيت فسرت بإتجاهه كان صنبور الماء غير محكم الإغلاق فكانت قطرات الماء تصدر صوتاً يمتد صداه عبر كل زاوية من هذا المنزل يا للأسف فكيف يعيشون في هذا البيت ؟!
خرجت منه بعد أن تركت ورقة كتبت عليها أن هذه السيدة أظلت طريقها اليوم فأرجو ممن يعيش معها أن يعتني بها جيدا ،ركبت الباص فسألني السائق أكان منزلها ؟!فقلت له نعم ،منزلها وأردفت قائلة سنذهب إلى الموقف حيث منزلي فقال لي نعم إلى الموقف.
بقيت أشعر بالقلق تجاه المرأة العجوز أن تفقد ذاكرتها مرة أخرى وتظل طريقها دون أن تجد من يساعدها ،لم يلفت إنتباهي من قبل أمر فقدان الذاكرة فكم يعاني المرء عندما يفقد ذاكرته ،أن ينسى عائلته وأصدقاءه والاماكن التي عاش فيها ،تخيلت نفسي كيف سأكون يوما ما عجوز بعمرها أفقد ذاكرتي .
أسير في الطرقات بين الأشخاص أنظر إليهم من بعيد أراقب تصرفاتهم ،أتخذ طريقا مختلفاً عنهم ،أبتسم لكل شخص وفي النهاية يعيدني أحدهم إلى المنزل .
كاتبة وباحثة اجتماعية -الأردن