«جريمة أسرية» .. بين محاولات التنشئة السليمة وتهميش حق الأبناء!

مقالات
25.2K
0



ألم مكتوم، تسبب به رب الأسرة!

حدثتني ذات يوم صديقة لي عن أزمة تقع فيها منذ فترة طويلة، أزمة لم تكف عن سحق إطمئنانها و تفننت في تفتييت أمنها، والمؤسف أن تكون أزمتها كامنة في أرجاء بيتها!، في أحضان أسرتها!، وفي«قعدة فضفضة» أخرجت ما في صدرها من ألم وخوف وضيق لم تستطع التخلص منه، أو قُل التفوه به ليهدأ هياج غضبها.

«أخاف الحديث عن أحلامي أمام والدي!»، قالتها، ومن هُنا إنطلقت في تفريغ طاقة غضب مستترة خلف نبض قلبها، وكأن الفرصة واتتها أخيرًا لتتألم، ولكن بصوت مسموع دون كبت أو هرب من الإعتراف.




ضاعت الكثير من الأحلام في لحظة خوف المواجهة، لحظة رد الفعل غير المُجدي، طموح قيده المنع، الرفض لم يعرف سبيلًا إلا لرغباتها البسيطة، وعنه أصبح النقاش مرفوض، فلن تصل من خلاله إلى نتيجة تُرضي قلبها وعقلها، قلبها الذي يأبى أن يقف أمام الأسرة التي ذاقت المُر من أجل الحفاظ على براءة نبضه، وعقل يستنكر واقع فُرض عليه دون سرد أسباب منطقية، لتجد الرفض هو الرد الحاسم أمام طريقها في الحياة؛ لتراه انتهى قبل أن يبدأ!.

قد تجد قصة اليوم قريبة منك بعض الشيء؛ فالحق أن البيوت «حكايات»، وها نحن نقتطف من بستان قصصنا حالة يستنفر منها الكثير والكثير؛ حيث أن نتائجها تخطت حدود البساطة وأشعلت نيران الألم والتفرق، عواقبها وخيمة لمن لم يُدركها قبل فوات الآوان!؛ فقد تصل إلى الفرار من المنزل بل وإرتكاب جرائم عدة بشكل تقشعر له الأبدان، فأصبحت الحياة الأسرية تحتاج إلى تقويم وتعديل لسلوكيات تبدأ من رب الأسرة وحتى أصغر الأطفال، أصبح الحديث يحتاج إلى نظام يحكمه العقل والمنطق بدلُا من القمع و «التخويف»، ومن هنا نبدأ..

– «مش موافق»، كلمة تؤدي لنهاية العلاقة الأسرية في غمضة عين!

كلمة .. تطيح بأحلام وآمال !

يعود نفور الأبناء -الفتيات تحديدًا- من الآباء لعدة أسباب، تتلخص أهمها في «الخوف»، خوف الأهالي على أطفالهم وإن تخطوا سن الرشد، يظل الخوف على فلذات أكبادهم هو المسيطر على تصرفاتهم وإن كانت قاسية، ولكن ما يجده الأبناء من هذه «التحكمات» كما يصفوها تتمثل في تلقي «صفعة الخذلان» الأولى منهم، خذلان الإحتواء والتفاهم، حيث يرتمي الطفل في أحضان أسرته مذ أن كان لا يفقه شيئًا في دُنياه سوى كلمة «بابا وماما»، فقط، وبمرور الوقت تتكون لهم صورة خاصة عنهم كتلك التي تُرسخها أفلام «هوليود» في أذهان الأطفال والمراهقين عن الأبطال الخارقين وقدراتهم غير المُعتادة، فوق كل شيء وأكبر من أي مخلوق محدود القوى، مكانة لا تقبل بالاستهانة؛ وبهذا يصبح الأب والأم السكن الوحيد للأبناء أمام أفكارهم التي قد تكون في كثير من الأحيان «متهورة».

– «ماما أنا نفسي أبقى رسامة»

= «لا إنتي هتبقي دكتورة زي بنت خالتك»

تبدأ المعركة من إمكانية الخروج والتحرر من قيد المنزل، وحتى إتخاذ قرار الزواج، كلها أمور محكومة بكلمة من الأسرة؛ فيتبدل الحال إلى حال وتتغير مسارات الحياة التي رُسمت في مُخيلتهم عما يرجون تحقيقه، بل ويعملون عليه بأقصى جهدهم، هي وغيرها من مُنغصات العيش التي يراها الأبناء «حبل مشنقة» تحكم الأسرة خنقهم به، ولكن، هل دققت في مردود هذه اللحظة على الأبناء؟، لحظة قد تدوم لمستقبل كامل، والجاني هو مبدأ «الرفض» دون أسباب تخمد لهيب العند.

-وانقلب السحر على الساحر!

بعض القسوة في التعامل تدفع الأبناء إلى سلوك لا يتسم بالإنضباط، لا يتفق مع الإتزان النفسي والعاطفي أيضًا، فالغالبية العظمى تجد أن الحل السليم يكمن في الإبتعاد والإنفراد، في تجنب الصدام معهم دون الخوض في أي مستوى من مستويات النقاش، ومنه تُخلق «فجوة عظيمة» لا يصلحها الزمن، وتعتبر هي الخطوة الأولى في بناء جدار فاصل يقف عائقًا أمام التواصل فيما بينهم، يُعرقل سيل المحبة والأمان، ويهدم الثقة المتبادلة وقبل كل هذا يُهشم الثقة بالنفس لدى الأبناء؛ وبالطبع ينتج عنه تبعات خطيرة تؤثر على المجتمع ككل ولا تقتصر على المستوى الشخصي فحسب.

يعتقد الآباء أيضًا أن مفهوم الدعم يقتصر على «المادة» فقط، متمثلًا في «الدعم المادي» الذي يضمن حماية الأبناء من ضربات الدنيا العنيفة التي لا ترحم إلا أصحاب المال والجاه؛ فتصبح حائط الصد الأول والأخير، ولكن الدعم له مفهوم أشمل وأعمق من مجرد «ورقات ملونة»، حيث أن «الدعم المعنوي» يمنح الأبناء بطاقة عبور للحياة مهما تفاقمت الكُرب والمِحن، وهو مالا يمكن تشربه سوى من منبع واحد: «الأسرة»، وإن جف المنبع فهي المأساة العظيمة!؛ تبدأ بإنحدار أخلاقي وتتصاعد حتى تصل إلى «عُقد نفسية» تحتاج إلى «كونسلتو» لحلها، وهو ما يدفعهم لأفعال مُشينة لم تكن في الحسبان؛ والسر هو فهم مغلوط وتنفيذ دون إهتمام.

– «لوي الدراع».. الحل الأخير أمام تسلط الآباء!

«عاوزه أسيب البيت وأمشي بعيد عنهم»..

هي مرحلة أخرى يصل إليها بعض الأبناء في نهاية المطاف، فبعد محاولات كثيرة في فتح صفحة جديدة وطي الماضي بل وحرقه، تبدأ سلسلة جديدة من التنازلات التي يراها الكثير المُنقذ الوحيد في علاقة فشلت كل محاولات انعاشها؛ فتكون راحة مؤقتة للأبناء من إستبداد الآباء؛ وتصبح التضحية بالعلاقة بمثابة مشهد النهاية المنطقية، ولكن، كيف يجدها الآباء؟

ينقسم رد الفعل بين الخضوع والرجوع من قراراتهم الصارمة الحاسمة، فيُفضل بعض الآباء إعادة النظر فيما أصدروا من أحكام أدت إلى تفاقم المشكلة؛ وعنها يعود إلى أحضان الأسرة مع بصيص من الأمل في مُحاكمة عادلة لا يجد نفسه فيها محكوم عليه بالإعدام وهو على قيد الحياة!، والبعض الآخر يجد هذا الفعل «عار» يسلب من الأسرة اسمها ومركزها، خاصةً وإن كانت فتاة في مجتمعاتنا الشرقية؛ فيصبح العقاب أشد غليانًا!؛ وعليه ينزل على الهارب ثورات من الغضب لا تهدأ، وهو ما يُزيد الطين بله؛ تشتد المُعضلة بلا حلول فعلية وقد تستمر لأزمات أشد تعقيدًا.

– «صفر على الشمال»..الاهمال حفرة يقع فيها الأبناء بيد الآباء!

– «شوفت يا بابا أنا عملت ده كله لوحدي»

= «عادي يعني، عملتي إيه جديد؟!»

مقابلة أي فعل يقوم به الأبناء بلا مبالة هي شُعلة أخرى تنطلق منها حرائق الكُره والبغض الذي يتشكل داخل الأطفال تجاه الأهل، إنعدام التقدير «شوكة» تقف في صدر أي إنسان، فكيف تجدها إن صدرت من مصدر الأمان؟!، بكل تأكيد هو شعور مُهلك لن يشعر بمدى قسوته سوى من مر به، وهو ما يُربي داخل الأبناء الغلظة والشراسة، فتجد أن بذرة الإهمال التي وضعتها الأسرة بقلوبهم نمت وتخطت حدوده الإنسانية؛ حتى يعتزلهم البشر تجنبًا لكلماتهم التي تفتقر لجبر الخواطر، وإن عُدت إلى بداية أزمتهم تجد أولها «توبيخ» الآباء لهم، وهو ما يظهر أثره على المدى البعيد ويُشكل التحدي الأكبر لإقتلاع جذور الدونية من أعماقها.

– «اوعى تغلط»..

كلمات تحيد بالطفل عن مسار حياته الطبيعي

تدفع المثالية المفرطة الآباء لتحميل الأبناء مسؤولية كبيرة قد تكون أكبر من أعمارهم؛ بل قد تتخطى حدود المعقول!؛ وهو ما يجعل الأبناء في صراع دائم بين ما يطمحوا إليه وما يتوجب عليهم أن يصبحوا عليه، فلا مجال للخطأ وإن كان بنسبة ضئيلة تؤكد بشريتنا التي تسمح بالوقوع في عثرات آدمية، لكن وبحسب معتقدات بعض الآباء فإن «رمي الحِمل» على الأبناء -في سن صغير- هو ما يكفل لهم قوة وصلابة وتحمل مشقات الحياة فيما بعد؛ وهو ما ينزعج منه الكثير من الأبناء ويجدوه كجبال يستوجب عليهم حملها وحدهم، ولا خيار لهم في ذلك، فأما الموافقة، أو إعلان العصيان على الأهل الذي يلحقه «بهدلة»؛ فيقع في قبضة الضغط النفسي؛ وعليه ينظر الابن إلى الأهل نظرة مقت و لنفسه نظرة إنهزام أمام إرادته المسلوبة.

– «هتعمل كده هنفذلك طلبك».. لُعبة يخرج الابن منها الخاسر الوحيد!

أكثر الأمور التي تودي بالعلاقة الأسرية إلى الهلاك هي «المساومة»، أن يرتبط تنفيذ طلب الأبناء بــ «سمع الكلام»، أتفق أنها قد تُحقق النتائج المطلوبة في بعض الأحيان؛ بل وقد تكون أسلوب فعال في التربية السليمة التي تهدف إلى الإصغاء وإحترام كلمة الكبير وتنفيذ الوعود، ولكن، ما المُبرر أن تتلخص تلك العلاقة المهيبة في «هات وخد»؟، فكثيرًا ما تكون المهام صعبة في تنفيذها من قِبل الأبناء وبناءً عليه لا تتحقق مطالبهم التي قد تكون أبسط بكثير مما طُلب منهم!؛ وهُنا مشكلة جديدة تظهر في عجز الأبناء عن البوح برغباتهم؛ خوفًا من الإطاحة بها بمهمة مُستعصية!؛ فيسود الصمت وتنشق القلوب لتبتلع مطالبهم البسيطة.

– الأب صديق الفتاة الأول، فهل يكون صديقًا وفيًا لها أم أنها صداقة كاذبة؟!

فتاة في مهب الريح والأب السبب!

تقول إحداهن: «لا أصدقاء لي، عشت عمري أُفتش عن صديقة مخلصة فلم أجد، حتى أنني فقدت الأمل في العثور على عقل يستوعب كلماتي دون ملل، وأما عن أسرتي فلم تمنحني الصداقة كي أكتفي بهم، كل ما أجده هو الصوت المرتفع الذي يصرخ في وجهي كلما أردت منهم شئ، وبهذا أصبحت صامتة.»

وأخري: «فقدت الأمل في عودة علاقتي بأسرتي!، يُطاردني كابوس العنوسة كلما نظرت لهم؛ فأجدهم يمقتون وجودي وينفرون من قلة حيلتي؛ فلا أجد سوى غرفتي أرتمي بها وتتسع لأحلامي في أسرة سعيدة أتنسم معها الأمن والطمنأنينة.»

الأب، هو الصديق والحبيب الأول في حياة ابنته؛ وبه يمكن لها أن تُغلق دائرة مشاعرها عليه باعتباره الحصن الآمن لعواطفها الجياشة؛ التي قد تكون غير متزنة في فترة ما خلال مشوارها في الحياة كأي فتاة تمر بفترات مُذبذبة في تكوين مشاعرها والوعي بنقاط قوتها وضعفها.

ماذا لو لم يلعب الأب دوره في هذه الحالة؟

هي مأساة أخرى نطقت بها الكثير من الفتيات اللاتي يُعانين من جفاف عاطفة الأب، وعنها تبدأ مرحلة أخرى تحت عنوان «أصحابي الولاد»؛ وهو الأمر الذي يعقبه تنازلات وعواقب وخيمة تقع بها الفتاة نتيجة عاطفة لم تُشبع بشكلها الصحيح؛ بل وقد يدفعها للتنازل بموافقة الزواج برجل يكبرها عُمرًا؛ وذلك لأنها وجدت به حضن الأب الذي إفتقدته طويلًا، فيخرج من هذه الزيجة سلبيات لا تُعد، والمُتسبب الأول في هذه «الجريمة» هو الأب الذي لم يفتح قلبه لإحتواء صغيرته.

– نهاية ما بدأته الأسرة، هو البداية لحياة نفسية مستقرة للأبناء

ينتهي الجدال بولادة جديدة للعلاقة التي تربط الأسرة بأطفالها، تلك العلاقة التي تُقيد بضوابط وأحكام ويعتبر الخروج عنها إخلال بالحياة، فدون الأسرة لن تستمر الحياة التي وُجدت بهم، يلتزم الأب والأم بسلوكيات تربوية محددة قد تختلف من أسرة لأخرى ولكن المبادئ لا تتجزأ، الفكرة هي إخراج جيل سوي لا يُعرقله ألم نفسي تسبب فيه أصحاب البيت!، يظل اللجوء إليهم مهما كانت الظروف، وهُنا تكمن القيمة التي نخرج بها: «البيت هو البداية أو النهاية»، فقد ينطلق منه الصلاح للأمة بأكملها، أو نهاية الحياة والإنسانية، والقرار يعود لمن تحمل مسؤولية «الخلفة».






تعليقات الفيسبوك