لم يكن يخطر على بال أحد أن يصاب عالم الموضة بما يشبه الهلوسة، أو الرغبة المحمومة في الدوائر والأشكال
المتداخلة، لكن مارك جايكوبس، ولمسته «الميداسية» التي تضرب عالم الموضة مرة أخرى تحول كل شيء إلى فن،
وتطلق أي فنان يتعامل معه إلى العالمية
فعلى مدى 15 سنة هي الفترة التي قضاها جايكوبس في دار «لوي فويتون» الفرنسية، تعاون مع عدد من
الفنانين كان لهم أثر كبير على الموضة وعلى أذواقنا، بدءا من ستيفن سبراوس، إلى ريتشارد برينس، سول
لويت وطبعا تاكاشي موراكامي
تعاونات ناجحة بدون استثناء فجرت جدلا إيجابيا بين علاقة الفن
والثقافة الاستهلاكية وأساليب التسويق
الأمر نفسه حدث مؤخرا بين الدار الفرنسية والفنانة اليابانية يايوي كوساما، البالغة من العمر 83
عاما، كانت ثمرته مجموعة تصيب العين بـ«الزغللة»، لكن يشفع لها أنها شهية بكل المقاييس
ففي كل أنحاء العالم، من نيويورك التي كانت المحطة الأولى لإطلاق هذه المجموعة إلى هونغ كونغ، وسنغافورة
مرروا بباريس ولندن، فضلا عن كل فروع «لويس فويتون» الـ453، سيجد الزائر نفسه أمام دوائر
وأشكال لا متناهية ستفتح الشهية أيضا للتعرف على هذه الفنانة غريبة الأطوار التي اختارت العيش في
مصحة نفسية منذ أكثر من ثلاثة عقود تقريبا
ما لا يختلف عليه اثنان أن تعاونها مع مارك جايكوبس يشكل ولادة من نوع جديد بالنسبة لها
فرغم
أنها اسم معروف في اليابان وفي وسط فن البوب آرت، فإن عالم الموضة ما كان سيتوقف ليهلل لها بهذا
الشكل لولا هذا التعاون الذي أثمر عن مجموعة أزياء وإكسسوارات لا بد وأن تستوقف أي متابع للموضة
والفن على حد سواء
فالمجموعة تدور في فلك «الهلوسة والتسلسل اللامتناهي» الذي يميز أعمال الفنانة، ومنها تبلورت إلى
إبداعات مطبوعة بلمسات «لوي فويتون» سواء في الأزياء، أو حقائب اليد، أو الأحذية، أو المجوهرات
تقول الفنانة إن هذه الدوائر والنقاط التي تسكن فكرها وتميز أسلوبها الفني ليس لها رسالة معينة،
فهي مجرد وسيلة تعبيرية خاصة بها، أو أداة لدخول عالم خاص نتفاعل معها فيه
عالم تطغى عليه
فكرة اللانهاية، التي تسكنها وتتكرر في كل أعمالها بشكل ملح، وإن كانت تقول إنها في هذه المجموعة تريد
أن توصل إلى العالم رسالة مفادها أن «الحب للأبد»
فالدوائر تعتبر أشكالا دون بداية أو نهاية
وهذا ما يشكل بالنسبة لها معنى الحب اللامتناهي
يايوي كوساما، ظلت لأكثر من خمسة عقود فنانة «بوهيمية» لها رؤية خاصة قد يراها البعض مجنونة،
والبعض الآخر يراها سابقة لأوانها، لكن ما من جدال بأنها ما كانت لتسبح في بحر العالمية لولا تعاونها
مع الدار الفرنسية العريقة، بفضل لقاء حدث عام 2006 في طوكيو
كان هذا اللقاء هو نقطة التحول بالنسبة للفنانة المخضرمة، التي رغم أنها دخلت الفن في شبابها
ورافقت أمثال أندي، وورهول فإن الشهرة راوغتها حتى الثمانينات، حين تنبه لها المجتمع الفني بعد أن
نظمت عدة معارض مهمة، في «البينال» بالبندقية و«موما» بنيويورك وغيرها
ومع ذلك ظل اسمها معروفا في نطاق ضيق، أغلبه من عشاق الفن عموما والـ«بوب آرت» خصوصا
لكن
لقاء عام 2006 كان بداية التغيير
فقد كان مارك جايكوبس موجودا في طوكيو لتسجيل فيلم خاص
عن حياته وعمله مع «لوي فويتون»، ولأنه يميل إلى فن الـ«بوب آرت» وسبق له اقتناء بعض أعمال
الفنانة في السابق، كان من الطبيعي أن يغتنم الفرصة لمقابلتها
ربما مدفوعا أيضا ببعض
الفضول للتعرف على هذه المرأة غريبة الأطوار، بعد أن استوقفته أعمالها لما تتضمنه من
«براءة
فنية لمست وترا حساسا بداخلي» حسب قوله، ومضيفا
«عندما أنظر إلى مشوارها الفني وإلى الأدوات
المختلفة التي استعملتها للتعبير عن نفسها من المنحوتات واللوحات إلى الدوائر والنقاط غير المتناهية
أجد نفسي أمام نوع من البساطة، والسذاجة والوله
وفكرة أنها لم تغير أبدا نظرتها تلك
تجعلك تشعر بالمزيد من الإعجاب بها»
ويبدو أن إعجابه زاد بعد اللقاء الأول، فقد «كان لقاء مدهشا، رائعا وخاصا جدا» حسب قوله
«لقد توجهت إلى مرسمها وجلست معها وقتا طويلا تكلمنا خلاله عن الحياة والعمل وعشقنا لصنع الأشياء
لقد كانت كريمة جدا معي وقتها
كانت في غاية الاستمتاع وهي تريني حقيبة (سبيدي) التي
صبغتها بنفسها
إنها إنسانة جذابة»
في هذا اللقاء اكتشف المصمم أنها، رغم بعد
المسافات وأنها في الـ83 من العمر، متابعة جيدة لأعماله
على الأقل، فإن بعد الجغرافيا وعيشها حالتها الفنية الخاصة لم تبعدها عن مجال الموضة التي أكدت أنها
تميل إليها ولها شطحات فيها أيضا
ثم إنها هي الأخرى، كما وضحت للمصمم، تهتم بانحناءات الجسد
وتضاريسه، والاختلاف بينها وبين أي مصمم أزياء هو المادة التي يستعملها كلاهما
اللقاء كان إيجابيا بكل المقاييس، ومع ذلك فإن الفضل في فكرة التعاون بينهما لم تولد إلا بعد سنوات
على هذا اللقاء وبدفعة من السيد إيف كارسيل، الرئيس التنفيذي لـ«لوي فويتون»
فهو الذي
أخبر مارك جايكوبس بتمويل الدار الفرنسية معرضا للفنانة سيطوف كثيرا من دول العالم، مشيرا إلى أن
أي تعاون بينه وبينها سيكون مرحبا به، ومعطيا شرارة الانطلاق لتعاون جديد يلون عالم الموضة
بالفن
ولأن التعاونات التي جرت في السابق بين المصمم والفنانين، ولدت بطريقة عفوية وتبلورت بطريقة صحية
وسلسة، فإن الأمر لم يختلف مع كوساما
فقد جرى العمل في توافق تام بين فريق عمله، وفريق عملها
في باريس، وكانت النتيجة ولادة مجموعة تضم حقائب يد، وأحذية، وأوشحة، وملابس سباحة وغيرها
وعندما عرضت النتيجة على الفنانة، رحبت بها تماما، ولم تبد أي معارضة أو تغييرات
نفس الأمر بالنسبة لـ «لوي فويتون» فإلى جانب الإكسسوارات، جاءت كل الأزياء سواء كانت من الحرير أو
الصوف مطبوعة ببصمات الدار ونقوشات «المونوغرام» اللصيقة بها، لكن تبقى الدوائر والنقاط
اللامتناهية حاضرة بقوة وهي مركز الجذب حتى في معطف ممطر من البلاستيك يبدو وكأنه مرسوم أو بالأحرى
مصبوغ باليد، في تحية لأعمالها الأولى، وفي حقيبة يد للسهرة على شكل ثمرة يقطين مستوحاة من عمل منحوت
للفنانة
يايوي كوساما البالغة من العمر 83 عاما تعيش في مصحة للأمراض النفسية منذ نحو ثلاثة عقود
وقد دخلت المصحة بمحض إرادتها وتعيش فيها أيضا طواعية مطلقة العنان لفنها أو، حسب ما يقوله
البعض، لهلوستها بالأشكال المتداخلة وغير المتناهية والدوائر والنقاط والألوان الغريبة التي تستعملها
متنفسا لنوبات القلق التي تعاني منها منذ الطفولة
فهي تتوجه إلى مرسمها خارج المصحة في كل
يوم لتعود إليها في آخر النهار
ولدت الفنانة في عام 1929 في الريف الياباني وفي الستينات من القرن الماضي شدت الرحال إلى الولايات
المتحدة الأميركية التي كانت تعيش حالة فنية خاصة يقودها روي ليتشتاين وأندي وورهول، وكلها أمل في
أن تصبح فنانة كبيرة
تقول إنه «في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة الأميركية الأقوى في العالم والبلد الأكثر شهرة، وكثير من
الناس أتوا إلى نيويورك ليصبحوا فنانين»، وبالفعل نجحت في حفر مكانة خاصة بها بصفتها فنانة ارتبط
اسمها بهوس الدوائر والنقاط والأشكال المتداخلة بلا بداية أو نهاية إلى جانب الألوان الهجينة
في السبعينات هربت من نيويورك عائدة إلى مسقط رأسها اليابان، لتدخل مصحة للأمراض النفسية
باختيارها، وفيها لا تزال تسكن وتبدع حتى الآن
وفيما يفسر البعض أنها تستعمل فنها وهذه
النقاط ذات الأحجام المختلفة والألوان الصارخة لفهم حالتها النفسية، يرى البعض أن فنها امتداد
لهلوستها
لكن مما لا شك فيه أن هوسها بالنقاط والدوائر اللامتناهية بالنسبة لها ليس وسيلة فنية فحسب بل هي،
كما تقول
«دوائي
إنها دوائي الخاص
فمنذ طفولتي وأنا أرى الأشياء المنقطة،
وكل الناس تتحدث عن فني من خلال هذه النقاط»
ما يلفت أيضا في هذه الفنانة المخضرمة أنها تشع بالدينامكية وبرغبة محمومة في معانقة العالم
في
أحد لقاءاتها صرحت بأنها تأمل من هذا التعاون بينها وبين دار عالمية مثل «لوي فويتون» أن تغطي
دوائرها ونقاطها كل العالم
بالنظر إلى محلات كبيرة مثل «سيلفريدجز» و«هارفي نيكولز» وغيرها،
فإنها لن تواجه أي مشكلة في تحقيق هذا الأمل، لأن كل الدلائل تقول إن عالم الموضة مستعد ليتلون بها هذا
الصيف
2012 هو عام الحظ بالنسبة للفنانة اليابانية المخضرمة، التي أصبحت كنزا يابانيا بعد أن كانت
منحوتاتها تثير الجدل وتحمر لها وجوه اليابانيين في السابق
فبعد معرض خاص بأعمالها في «تايت مودرن» امتد من شهر فبراير (شباط) إلى شهر يونيو (حزيران) الماضي،
فإن متحف «ويتني» للفنون الأميركية أيضا يحتفي بها هذه الأيام بتمويل من دار «لوي فويتون»