بقلم : نورا محمد حنفي
– عنوسة البنت , شبح العُمر .
يعتبر مصطلح ” العنوسة ” من أصعب المصطلحات التي تمر على الفتاة , فبعد أن تنتهي من مرحلتها الدراسية تبدأ التساؤلات حول مرحلتها القادمة , ليست في استقلالها المهني والمادي , ليست في تحقيق أحلامها وأهدافها التي لطالما حاربت من أجلها , ولكن في ” الجواز ” الذي يعتبر الهدف الأول والأخير امام كل فتاة تمر بفترة عمرية معينة , إن تخطتها تكثر حولها التكهنات حول تأخر زواجها , حتى أن الأمر يطول شرفها في كثير من الأحيان وفي مجتمعات عربية تربط تأخره بوجود مشكلة تتعلق بأخلاق الفتاة , والكثير يعتبره وصمة ” عار ” لا تصلحه الأيام , يجلب للأسرة الضياع والدمار , فتخرج عن الفتاة سيرة غير حسنة , وعنه قد تضطر الأسرة لإصلاح هذا الأمر بإتمام الزيجة مع أي شخص بغض النظر عن شخصه لمجرد سد ” أفواه ” المجتمع حيال الفتاة , لمجرد التخلص من القيل والقال , ولكن الأمر ما هو إلا ” نصيب ” , وهو الأمر الذي لم يعترف به البشر !
– قصة كل بيت .. قلب الفتاة فيها بطل الحدوتة .
ذات ليلة شتوية بنسمات هادئة لم ترتفع لمرتبة السقيع وتيارات الرياح التي تتفنن بأطراف البشر , أخبرتها والدتها الخبر الأصعب على الإطلاق , الخبر الذي لطالما كانت تفر منه , وكأنه الوحش المُخيف بطل ” الحواديت الطفولية ” التي كانت تقصها الأم حتى تفر الطفلة خوفًا إلى نوم طويل , دون أن تُزعجها بهُراءات المرحلة وبلا مجهود يُذكر , أصبح هروبها من هذا الخبر بمثابة الهروب الوحيد الذي لم تدرك أسبابه ! , لا تعلم أين تفر منه وإلى أين تختفي عن أنظار هذا الشبح الفظيع ! , قالتها الأم بنفس تنتفض بالغيظ المخفي , وشق صدرها سيف الحزن العنيف الذي أخذ يسلب منها راحة بالها , وسعادتها لم تعد تشتعل وتتوهج كما أبدعت من قبل ..
” عرفتي ان بنت خالتك هتتخطب الاسبوع اللي جاي ؟ ” ..
” هي لم تقل الخبر بهذه السلاسة والمرونة كما قرأت , بل بكلمات تزداد احتراقًا لتعلن عن اشتعال نيران الأم هي الأخرى حيال أمر ابنتها , فهي تراها في نظر الكون كله : خايبة ” ..
ساد صمت الفتاة للحظات في شرود تام ولم تنطق بحرف واحد , أخذت تسترجع ذكريات ابنة الخالة معها التي دخلت بوابة ” العشرينات ” لتوها , مذ أن كانت رضيعة لا تقوى على تحرير الكلمات من جوفها , كل آمالها أن تجد من يُجاري عقلها البدائي ويعبث معها , يخلع قناع السخط والملل ويستبدله بقناع الرضا عما يفعله , والحقيقة أنه لو يقوى على إعادتها لرحم أمها من جديد فلن يتأخر عن فعل ذلك ! .
تذكرت فترة مُراهقتها , وكم تبدلت من طفلة مُدللة إلى فتاة تتمتع بدلال أكبر عما كانت عليه ! , كانت الأصغر بين أخواتها , ولكنها لطالما كانت الوحيدة في قلب الأم والأب وستظل حتى الممات , شعرت أن العمر يتسارع وبحق , يتسارع لدرجة أنه قد يجرف في طريقه من لم يستطع استغلاله ! , أدركت أنها على وشك أن تُجرف بتياره هي الأخرى ! , ظلت على شرودها هذا ولم تلتفت للأم , الأم التي كانت تجلس أمامها في وضع استعداد لتنقض عليها فتُلقنها درسًا جديدًا في كيفية الإيقاع بشريك العمر , ظلت ترمقها بنظرات قاسية , حسبت بها أن الفتاة سوف تشعر كم هي مُذنبة في حق نفسها وفي حق الجميع , ولكن الفتاة ظلت صامتة ولم تتفوه بحرف حتى تحررت الكلمات وتراقصت أحبالها الصوتية لتُخرج رد فعلها أخيرًا ..
” باركي ليها وقوليلها إني مبسوطة بالخبر ده , بس مش هقدر أحضر علشان شغلي ” ..
” حُجة ومبرر لن يُجدي نفعًا يا فتاة , فالعمل الذي تتحدثين عنه لطالما بغضتيه وودتي أن تستقيلي منه كل لحظة تمر , أيُعقل أن الأم ستتفهم الأمر وتقل لكِ : كان الله في عونك؟! , بهيئتها الغاضبة تلك لا أتوقع إلا بأنها ستنهال عليكِ بكلمات لم تعهديها من قبل و لن تقع على مسامعك مرة أخرى , فكان الله في عونك وبحق ” ..
وجدت الأم رد الفتاة فاترًا باردًا يخرج من شخصية لامبالية بالأمور , ساذجة بمسؤوليات الحياة , مسؤوليات الحياة التي تلخصت في مسؤولية واحدة فقط لدى الأم ألا وهي ” الزواج ورؤية الأحفاد قبل الممات ” , لم تعي أن الفتاة تقع في صراع عنيف يزداد سوءًا وإضطرابًا يوم بعد يوم , لا يعلم أحد عنه وعن مدى قسوته على قلبها الذي لم يغترب عن براءة الطفولة قط , في أرض المعركة , كانت هي المُحارب الوحيد الذي يدافع عنها ! , والحياة بأكملها كانت الطرف الآخر الذي قد تسلح بأكبر الأسلحة والمُعدات والهدف واحد ” تدميرها تدمير أبدي ” .
تحالف المجتمع ضدها وكأنها مستعمر دخيل على أرضه ! , والغريب أن الأم هي من تمد للمجمتع بأسحلته ضد ابنتها المسكينة ! , الأم التي تمثل مصدر الأمن والأمان والقوة ضد عنف الأيام وضراوتها , تبدلت الآن وأصبحت منبع كل خوف وفقدان ثقة , ولكن وبرغم ذلك كانت الفتاة تُعاند من أجل البقاء حتى آخر لحظة في أرض المعركة , وإن لم تفز بها فهي على أقل تقدير ستثبت للعالم بأكلمه أنها تحمل روح شجاعة لم تيأس ولم تنسحب , تمسكت بمبدأ ” البقاء للأقوى ” وإن كانت كل ما تملكه , وبالفعل هي الأقوى بنفسها التي لا تعجز عن الإصرار ولن تعجز أبدًا ..
تركتها الأم مُتغافلة عن رد فعلها الذي لم تستسيغه لحظة , قررت ألا تُحدثها في تلك الأمور من جديد , فقد فقدت الأمل حيال أمرها وإن استمرت فيما تفعله معها حتمًا سينتهي أمرها بذبحة صدرية أو بجلطة! , غادرتها وغادرها الأمل , نفسها تزداد غضبًا وعقلها يضطرب بالفكر والتساؤلات بشأن مستقبلها الذي لم تجد له ملامح حتى الآن , وبرغم مركزها المرموق في عملها , وبرغم حائط غرفتها الذي يكتظ بشهادات وجوائز حصلت عليها كنوع من التقدير عما كافحت لأجله , إلا أن مستقبل ابنتها الحقيقي في نظرها هو ” زوجها وأولادها ” , أحفادها التي أيقنت بأنها لن تشهد ولادتهم أبدًا إن استمرت ابنتها في الحياة بنفس العقلية العملية وتستمر في إلغاء نبض قلبها ! , ولكنها غادرت وأقسمت ألا تُحدثها من جديد في أي أمر يرتبط بموضوع الإرتباط ..
قضى كلاً منهما ليلته في حيرة عنيفة , وتساؤلات أعنف كادت أن تُفجر رأسهما تفجيرًا , فكر لم يخلد إلى النوم ولن يفعل في تلك الليلة العصيبة المُضطربة , التي كانت تسير على النهج الهادئ ولكن سيناريو الليلة قد تبدل بعد هذا الخبر الذي عصف بهدوء الجميع في غمضة عين .
كم كانت قوية تلك الفتاة ! , كانت تتلقى كل خبر وخبر بنفس هادئة وثغر مُبتسم , لم يكن في حُسبانها أن الحياة ستجد أن هذه الإبتسامة كناية عن القبول والرضا فتفيض عليها بالأخبار التي أخذت تُبدل إبتسامتها , مرة بالصمت ومرة بالإنصراف , لقد تمادت الحياة في نهش سعادتها , ولكنها استمرت في إيمانها ويقينها أنها ستجد من يُشاركها رحلة حياتها يومًا ما , وستجده حينما يدق النصيب بابها وفقط , دون واسطة أو تخلي عن مبدأ أو ” خاطبة ” , كان هذا الأمر الوحيد الذي يبعث في نفسها الطُمأنينة بعد كل خبر يسلب منها الإتزان .
” فلانة اتخطبت ” , ” فلانة اتجوزت ” , كلها أخبار ملأت قلبها بالسعادة التي يُخالطها اشواك الألم , الوحدة التي قذفتها في قبضة الغربة بين البشر , تارة تسخط على حالها وتفيض منها دموع الحسرة , وتارة تعود لهدوء قلبها فتجد أن الأمر كله بيد الله , لن يخرج للنور إلا عندما يأمره الله ” كن فيكون “, وبرغم علم الأم بهذه الحقيقة وإيمانها الشديد بكل حرف فيه , إلا أنها كمثل كل أم تود أن تطمئن على ابنتها قبل فوات الآوان , ومع كلمات من الأسرة والجيران والأصدقاء وجدت أن عقل والدتها تم الاستحواذ عليه بأفكار ” العنوسة ” التي ظلت تُعاني من آثارها منذ زمن ..
– ” خلي بالك من بنتك “
– ” قوليلها تشد حيلها , كده القطر هيفوتها “
– ” متعرفيش ان اللي في سنها اتجوز ومخلف دستة عيال؟! “
– ” ليكون فيه حد في حياتها ومخبية عليكي! “
– ” الشغل مش هينفعها لما تكبر وتعجز لوحدها , كلميها ووعيها “
كانت الأم لا تجد في ذلك إلا أنها تستعطفها مرة بكلمات حانية ودموع تجعل القلب يُزلزل في ضلوعه , ومرة أخرى بالمناقشات القاسية التي تتحول لمناظرات بين الأم والابنة في إنتظار من سيفرض وجهة نظره , وفي النهاية لم تُثبت أي وجهة نظر وينصرف الجميع إلى غرفته , فتشتعل حروب فكرية ونفسية من جديد ! ..
انقضت الليلة , وأتى الصباح ليفرش اشعة سمشه التي تحمل الطابع البارد الخفيف , والنسمات التي تبدأ في التصاعد مع كل لحظة , وتركت الفتاة غرفتها وبدأت في تحضير امورها من أجل الإنصراف إلى العمل كعادة كل يوم , وكعادة هذه الظروف لم تكن الأم تستطيع أن تدع ابنتها تنصرف دون أن تُحضر لها فطورها وتأمرها أن تُطمئنها عليها بمجرد وصولها للعمل , هو قلب الأم يا سادة الذي مهما اسشتاط غيظًا من ابنتها يعود ينتفض خوفًا وحبًا عليها , فأومت برأسها أنها ستتصل بها وتناولت فطورها وأغلقت باب الشقة في هدوء كالعادة , ولكن ما حدث أن باب آخر قد فُتح لها , باب لن يُغلق أبدًا ..
وصلت مكتبها وأوفت بوعدها تجاه والدتها , وبعد أن جلست لتبدأ في خوض حربًا جديدة مع ” الملفات والإيميلات ” , تقدم زميلتها الحسناء التي تبلغ من العمر 25 عامًا , ” المُتزوجة والأم لـ 3 أطفال ” , لتُخبرها بالخبر المُغير لأحداث كُليًا , ولكنه لم يكن كخبر الأمس الذي قلب حال البيت رأسًا على عقب ..
” ماعرفتيش , المدير الجديد وصل وعاوزنا نروح مكتبه علشان نبدأ الاجتماع بسرعة , شاطر وعنده خطة وهينقلنا في مكان أحسن بكتير , مش هتيجي معانا ؟ ” ..
قالتها ولم تنتظر الإجابة , فهي على علم أن فتاتنا لن ترفض أي شئ طالما يتعلق بالعمل وسيره بشكله الأمثل , وبالفعل أنجزت كل امورها وانطلقت نحو المكتب الذي اكتظ بكل الموظفين , فجلست بهدوء كالمعتاد في ترقب لهذا الكيان الذي سيخوض معهم مرحلة عملية جديدة ..
وبعد أقل من شهر ..
الأم تتصل بأختها لتُخبرها عن شئ لطالما انتظرته , ألم تُدركوا الآن ما هو الخبر ؟
الخبر الذي سيُعيد فرحة الأم من جديد , الذي يجعلها تتيقن هي الأخرى أن النصيب يأتي بموعده المقدر له , يمحو قسوة الأيام والكلمات .
” بنتي اتخطبت ” ..
نعم لقد جُبرت الفتاة الهادئة ذات النفس الراضية المُبتسمة بمُديرها الجديد , ومن هنا , أتى النصيب في لحظة دون سابق ترتيب له , فأتت معه سعادة الأسرة بأكملها ..
تذكري أن القطار إن فات محطتك فهو المكسب الأكبر لكِ إن لم يكن يتجه نحو رحلتك الحقيقية .