قصة قصيرة للكاتبة فدوى الأشقر مستوحاة من رفصة الفلامنكو التي خلف موسيقاها ملحمة ثورية وخليط متضارب من الحزن و التمرد.. فإلى تفاصيل القصة المتلاحقة ..
تجاوز الوقت الساعة السابعة مساء بدقائق، بالقرب من باب مقهى صغير في زقاق خلفي للمدينة العتيقة. زوجان يثرثران…
…
ينتبه الزوج فينظر الى ساعة معصمه ـ فيمسك بيد زوجته و هو يرمي سيجارة لا زالت في بدايتها و يقول على استعجال :
اوووه عزيزتي، لندخل فالعرض على وشك أن يبدأ.
يعبر الزوجان داخل المقهى متوجهين نحو قاعة في نهاية ممر يتوسط الردهة الرخامية، تزين حيطانه مجموعة من اللوحات الفنية من مختلف العصور، على أرضيته فُرش سجاد عجمي فاخر ، لوحة من الفن الإيراني رسمت على الأرض….ألقيا التحية على الجابي قاطع التذاكر …. رد عليهما التحية بحرارة. يبدو انهما زبونان قديمان.
داخل القاعة ، كل المقاعد مشغورة بالمتفرجين من مختلف الأعمار شبابا و عجائز.هناك في أحد الصفوف الأمامية نرى الزوجان يتجاذبان أطراف الحديث مع رجل يجلس بجانبهما، يبدو انه أول مرة يحضر فيها العرض.
بقي خمس دقائق على رفع الستارة.هناك في الكواليس كل فرد من أفراد الفرقة يستعد في صمت و هدوء. انها ليلة العرض الاخيرة لشهر كامل من العروض اليومية المتواصلة.تعود افراد الفرقة على ادوارهم و على تفاعل الجمهور الذي ملأ المسرح كل ليلة. كل هذا النجاح لم يستطع ان يطغى على شعورهم بالتعب وشغلهم عن التفكير في عطلتهم القريبة جدا … كان هناك شخص واحد يجوب الكواليس يتوتر و يهتم لأدق التفاصيل دون تعب و كأنها أول ليلة عرض. انه الفنان الرئيسي للفرقة و المؤسس لها، بل صاحب فكرة هذا المقهى المميز من نوعه.منذ صغره انتبه والداه إلى ميوله للتأليف و التمثيل فأدخلاه معهد الفنون موازاة مع دراسته . استمرت علاقته بالفن و تطورت عبر المطالعة و المتابعة الحية للمسرح،إلى أن توفي والده فورث عنه منزلا قديما قرر تحويله إلى مقهى و مسرح في آن واحد.
يسحب إحدى الدمى المعلقة و يحضنها . يهمس في أذنها :
– سوف أشتاق لك أيها الرجل المكافح.و يتطلع بفخر اليها و يسترسل …
– كم أنا رائع و موهوب…أرأيتِ؟.أن تتعاملي مع فنان لامع مثلي يجعل منك دمية الظل الأكثر حظا .لقد منحتك الوجود و الشهرة طيلة هذه الليالي .لقد حولتك من خيال ظل الى ماريونيت كاملة. أسعيدة أنت ببدلتك الجديدة و حذائك اللامع؟.و يحرك الخيوط و يتكلم من بطنه على لسان الماريونت.
-الماريونت: أنت أفكاري ،حزني و فرحي ، احلامي، لساني، حركاتي ، خطواتي.. ، أنا بدونك لا شيء.
تظهر على وجهه علامات الارتياح لهذا الولاء العظيم من الدمية .يقترب من المنصة و يعطي إشارة بدأ العرض.
ترفع الستارة.تسلط بقعة الضوء في منتصف المنصة.
إنها نفس الماريونت …تلعب دور طبيب و جراح عيون مشهور جدا.
” كل العالم لا يرى إلا نجاحه . وحدها فقط ساعات الليل التي تشهد على حزنه الدفين. كم يشبهها !! طيلة سنوات مضت لم يُرى منها سوى ظلها، و صوت يأتي من فوق و خيوط رفيعة تتحكم فيها عن بعد”.
يرتمي الطبيب المنهك فوق كرسي على يسار المنصة.يُسمع صوت بكاء و نحيب ثم يسود الصمت …يعود صوت البكاء من جديد .
يهمس أحد المتفرجين الذين سبق لهم أن شاهدوا العرض في أذن صديقه :
– من المفروض أن تدفن الدمية وجهها بين يديها ، لكنها لم تفعل .ربما توجد مشكلة تقنية !!؟
فجأة. ينتصب خيال الماريونت واقفا و يخترق الشاشة الورقية .يشهق الجمهور. تركض الماريونت كالمجنونة فوق المنصة تتبعها بقعة الضوء بحيرة و لهفة، الى أن تتوقف في المنتصف. فتستريح بقعة الضوء. يُسمع صوت تنهيدة عميقة …
تصرخ الماريونت:
– ” Oleeee ”
.
فيعلو المسرح صوت عزف على الجيتار بأنغام قوية متتابعة و كأنه يزمجر و يثور على الصمت.أو …يرد بدوره على صرخة الماريونت.
يسود الصمت مرة أخرى… و أعين المتفرجين مثبتة على الماريونت يترقبون حركتها القادمة.
دون سابق إنذار تبدأ الماريونت بخبط الأرض بقدميها بدقات قوية متسارعة …تلاها عزف الجيتارة. على غير عادة تحاول بتحد تتبع الخطوات الثائرة,بينما بقعة الضوء تنتقل بين قدمي الماريونت يتراقصان رقصة بمشاعر متضاربة…من سيكون السيد هنا ؟
يشرق وجه الماريونت ابتسامة أذابت الصقيع عن أطرافها كما عقلها. و تلبسها روح القرار . لأول مرة تشعر بالبطولة على المسرح .الليلة هي حرة .تملك زمام الإيقاع، تقود الجيتار و بقعة الضوء.هي من يكتب قصتها ،حياتها…انقطعت الخيوط عن أحلامها و انفجرت فراشات ترقص على أوتار الحرية…غريب هذا الشعور بالذات و القرار …لا يهم الصواب و الخطأ في لحظة نشوة اختبار الاختيار.
ينفعل الجمهور مع الماريونت …يقفون جميعا …يدعمون رقصتها بالتصفيق على إيقاع الخطوات و عزف الجيتار …تعلو الخشبة موسيقى سحرية في عرض حيً وبشكل تلقائي غير مفتعل. في لقاء مركب تإن فيه الذات البشرية على أوتار من موسيقى الشجن .تسحب الخوف ،تسقطه على الأرض…تسحقه قدم التمرد… يعلو التصفيق.يعلو …يعلو أكثر….
ينتهي العرض يهتاف حاد من الجمهور.في ذهول ينحني رئيس الفرقة للجمهور … يختلج شعوره خليط يتأرجح بين سلمة المجد الذي هبط من السماء و خشبة المسرح هناك حيث جسد الدمية التي فجأة. أصبحت ساكنة.دميته التي صنعها هو في أيام ،في ليلة علمته درسا من دروس الحياة.
يبدأ الجمهور بالخروج من المسرح من بينهم الزوجان المتأخران…
نسمع الزوج يحدث زوجته بصوت منفعل :
-ألم أقل لكِ أنه لا يجب علينا أن نفوت العرض الأخير..لقد توقعت عملا جنونيا من هذا الفنان العظيم.أترين كيف غير القصة ليبرز أهمية الماريونت كإحدى العناصر الأساسية في عمله….
يبتعد الزوجان عن المسرح و هما لا زالا يتناقشان حول عرض الليلة…
هناك في المسرح ،كانت سعيدة هي الدمية و صاحبها يعيدها الى خزانتها، موطنها الصغير …لم يحدثها كالعادة, جلس على كرسيه الهزاز سارحا في ما حدث …لا يهم ما دامت ستظل بقربه… تفكر الماريونت ، كل ليلة ستتدلى لترسم للناس أحلامه ،كل ليلة ستستوطنها روحه، صوته .، خطواته ،أفكاره ، أحزانه … فنه الذي هو كيانه.خيارها كان عاقلا بجنون “أن تمتلك مملكة ملكها يملكك”.