كشفت دار «هيرميس» الفرنسية الستار مؤخرا عن نتائجها لهذه السنة، معلنة عن تحقيقها أرباحا تُثلج الصدر، خصوصا في ظل الأزمة المالية التي ألقت بظلالها الثقيلة على عالم الموضة. وقالت الدار إن مبيعاتها شهدت ارتفاعاً بنسبة 7.6%، لتبلغ قيمتها 874.9 مليون يورو خلال النصف الأوّل من العام الجاري، مشيرة إلى أن الفضل في زيادة مبيعاتها يعود إلى الإيشاربات وحقائب اليد والسروج وغيرها من المنتجات، التي تخصصت فيها الدار في بدايتها.
«هيرميس» واحدة من بين عدد محدود من بيوت الأزياء الراقية، التي لم يؤثر عليها الركود الاقتصادي إلى حد كبير، ربما لأنها بنت سمعتها أساسا في مجال الجلود، رغم دخولها عالم الأزياء وبراعتها فيها، فالأزياء في الوقت الحالي لا تحقق ما تحققه حقيبة يد أو حذاء، بل وحتى قارورة عطر، من أرباح.
والمتعارف عليه أن حقيبة يد من حقائب «هيرميس» تبقى حلما لا يتحقق في ارض الواقع سوى للنخبة، هذا الحلم، إلى جانب التفرد، هو ما يساعد بيوت عالمية أخرى تعد على أصابع اليد، على الاستمرار في تذوق نفس النجاح، نذكر منها مثلا داري «لوي فيتون» و«شانيل» إلى حد ما.
والسر، حسب الخبراء والمتابعين لأحوال السوق وبالذات قطاع المنتجات المترفة، أن هذه البيوت استطاعت الحفاظ على تلك الهالة من التميز والتفرد النخبوي، التي تجعلها جذابة في كل زمان ومكان، وسواء كانت هناك أزمة أم لم تكن.
فحقيبة مصنوعة من جلد التمساح تحمل توقيع «هيرميس» مثلا، تفرض على الزبونة انتظار ولادتها وتنفيذها شهورا، بل وأعوام، قبل أن تستطيع حملها على يدها، عدا أن سعرها يقدر بـ48.000 دولار أميركي، ومع ذلك فإن لائحات الانتظار طويلة. ولا يخفى على عارف أن السبب يعود إلى أن كل صغيرة وكبيرة فيها تنفذ باليد، وبأنها تحتاج إلى كميات كبيرة من جلود التماسيح لا تتوفر بسهولة.
وهذا الأمر دفع بالدار منذ زمن إلى إنشاء مزارع خاصة باستراليا لتربية تماسيح؛ تمكنها من الحصول على اكبر كمية من هذه الجلود، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن حقيبة واحدة تحتاج إلى جلود ثلاثة أو أربعة تماسيح.
لهذا ليس غريبا أن الضغط كبير على الدار لإنتاج حوالي 3000 حقيبة في العام، وهو عدد قليل جدا في سوق الحقائب، لكنه معقول في سوق المنتجات المترفة، التي كلما قل عددها وطال انتظارها، زاد سحرها وتفردها.
اعتراف «هيرميس» بأن الفضل في زيادة مبيعاتها يعود إلى المنتجات الجلدية والإيشاربات، يؤكد أن العودة إلى الأصل فضيلة، وهذا بالتحديد ما ينصح به خبراء بيوت الأزياء العريقة، أي معانقة إرثها والعودة إلى جذورها للحفاظ على هالتها.
أما مقولة «الزبون دائما على حق» فقد برهنت على عدم جدواها، حسب ما يقوله خبراء من أمثال البروفيسور جون نويل كابفرير وفينسنت باستيان، مؤلفا كتاب «استراتيجية الترف» (دي لاكجوري ستراتيجي). فهذه الهالة، كلما كانت بعيدة المنال، هي التي ستقود جانب المنتجات المترفة بالذات إلى بر الأمان، حسب قولهما، ذلك أن الزبائن مهما كانت إمكاناتهم أصيبوا بالتخمة من المنتجات المتشابهة، التي ما إن يمر عليها موسم واحد حتى تصبح موضة قديمة.
في المقابل، أصبحوا أكثر إدراكا أن الكلاسيكية والمنتجات المترفة المصنوعة باليد وبحرفية عالية هي التي تدوم، سواء كانت قطع مجوهرات أو قطع إكسسوارات، وأكبر دليل على أن هالة الماركة مهمة، تجلت خلال موسم التخفيضات هذا الصيف، الذي بدأ قبل ميعاده بأسابيع.
التخفيضات طالت معظم الأسماء بنسبة 50% إن لم تكن 70%، باستثناء منتجات «شانيل» و«هيرميس» وطبعا «لوي فيتون»، التي ترفع دائما شعار «لا تخفيض على الإطلاق»، ذلك أن مالكها الملياردير الفرنسي برنار أرنو لا يريد أن يقهر زبائنه حسبما صرح به في إحدى المناسبات.
بمعنى انه لا يريد أن يشتري زبون قطعة من قطع هذه الماركة ليجد بعد شهر أو شهرين أن سعرها انخفض إلى النصف، فهذا حسب رأيه لا يقهره فحسب بل أيضا يؤثر على اسم الماركة وعلى مدى الإقبال عليها.
وهو محق إلى حد كبير، فلا أحد يتردد على شراء قطعة تحمل توقيع «لوي فيتون» في انتظار موسم التنزيلات كما هو الحال بالنسبة لباقي الماركات، لأننا نعرف مسبقا أننا لن نصدم بعد فترة، وهو ما أكدت الأيام انه استراتيجية ذكية على المدى البعيدة، تخدم صورة الدار وتجعلها متميزة ومختلفة.
من جهتهما، يقول كابفرير، الذي تجدر الإشارة إلى أنه بروفيسور متخصص في استراتيجيات التسويق بباريس، وباشتين، المدير العام السابق في كل من دار «لوي فيتون مالتييه» والرئيس التنفيذي، سابقا، في دار «إيف سان لوران» للعطور، بأن التنازل للزبون لا يعطي نتائج إيجابية، لا سيما في قطاع المنتجات المترفة، وأن الحفاظ على الصورة هو الأهم، مبرران رأيهما بالقول، إن الفشل والإفلاس لهما طريقان، الأول عدم الإصغاء تماما لحاجة الزبون، والثاني الإصغاء الزائد له، إلى حد الخنوع.
النقطة الأخرى التي أكدا على خطورتها محاولات بعض بيوت الأزياء والإكسسوارات جذب زبائن بيوت أخرى بأي شكل، وهو ما يضر بها على المدى البعيد أكثر مما يفيدها، لأنه يؤثر على صورة الماركة ويرخصها، بمعنى آخر، فهي عندما تصبح متاحة لشرائح اكبر تفقد بريقها، أو بالأحرى هالتها، مما يحدث شرخا بينها وبين زبائنها المقتدرين، الذين يبغون التميز بأي ثمن.
ويوافقهم الرأي مايكل واينرايت، المدير العام لشركة المجوهرات المعروفة «بودلز»، التي يعود تاريخها إلى 200 عام وتخاطب النخبة، بأن الصورة مهمة وأهم منها الوفاء للزبائن، الذين يريدون التميز، وهذا بالذات ما يجعله لا يؤمن بتخفيض سعر مجوهراته عندما لا تباع، ويفضل، في المقابل، اللجوء إلى طرق أخرى، مثل إذابتها وإعادة صياغتها من جديد أو استعمال أحجارها في أشكال أخرى، فهذا أحسن لصورة الدار من تخفيض أسعارها من أجل تحقيق الربح السريع.
أما ميلتون بيدرازا، وهو الرئيس التنفيذي لمؤسسة «دي لاكجوري انستيتيوت» فيعلق على الأمر بقوله، إن «الركود الاقتصادي هو الفترة التي يجب فيها على القائمين على قطاع المنتجات المترفة أن يعيدوا النظر في الأساليب والاستراتيجيات التي يتبعونها، حتى يمكنهم الاستمرار».
ويوضح أن العديد من الشركات، من هذا القطاع بالذات، أعمتهم رغبة التوسع عما هو أهم، وكانت النتيجة أنهم جزأوا القطاع إلى عدة أقسام مما، جعله يفقد قوته وبريقه في نظر الزبون.
فهذا الأخير ليس ساذجا ويعرف تماما الفرق بين المترف وبين شبه مترف، والدليل نتائج دراسة أجرتها «دي لاكجوري انستيتيوت» تفيد بأن 62% من الزبائن المقتدرين يؤمنون أن أي ماركة مترفة لا يمكن أن تتقن أكثر من منتجات محدودة، بمعنى أن التخصص مطلوب، فيما قال 40% منهم إن هذا القطاع أصبح تجارة وفقد تركيزه على الأهم، باستثناء ماركات محدودة مثل «هيرميس»، «شانيل»، «هاري وينستون» و«كريستيان لوبوتان»، فهؤلاء استثمار على الرغم من أسعارهم العالية.
حتى تكتمل الصورة:
– الترف لا يقارن، لهذا لا يجب على أي مصمم أو بيت أزياء أو شركة مجوهرات محاولة تقليد آخرين مهما كانت نسبة نجاحهم، فعندما يتعلق الأمر بالترف فإن التميز هو الأهم إلى جانب الوفاء إلى الجذور والأسس التي أنشئت عليها.
– عدم الإذعان لطلبات الزبائن بشكل أعمى، لأن هذا حل مؤقت، بينما يجب أن يقوم الترف على رؤية مستقبلية بعيدة المدى وليدة عقل خلاق.
بعبارة أخرى فإن أي منتج مترف يفضل أن يكون نادرا وبعدد محدود؛ حتى يبيع بسرعة أكبر، ذلك أن الزبون يعرف أن ثمنه فيه، ثم أن عدم الإذعان للزبون لا يعني عدم احترامه، بل العكس تقديم المتميز والمتجدد له مع النصيحة، فهذا يزيد من قوة الماركة ومن احترامها.
– إبعاد الزبائن غير المخلصين للماركة، أو الذين يتهافتون على أي شيء جديد من باب التقليد، فالخطأ الذي يقع فيه البعض هو محاولة جذب زبائن بيوت أخرى، مما يضعف صورتها ويخفف من توهج «الحلم»، الذي يجب أن يبقى حيا، بجعل المنتج متميزا وغير متاح للجميع ، فكلنا يعرف أن أي شيء تزيد حلاوته إن كان نادرا وصعب المنال، وهذا ما تفهمه دار «هيرميس» جيدا وتؤكد أرقام مبيعاتها ولوائح انتظارها على حقيبتيها «دي بيركين» و«كيلي».
– لا يجب أن يكون الهدف الأول من الدعايات والحملات الترويجية هو البيع، بل تأجيج الحلم وبيعه فيما بعد، واستقطاب شرائح مقتدرة جديدة تسمع بالماركة لكن لا تعرفها جيدا.
– المنتج هو الذي يحدد السعر وليس العكس، وإن كان البعض يميل إلى رفع السعر حتى يزيد من الإقبال، وهو أمر لا يخدمها على المدى البعيد؛ لأن الزبون ليس ساذجا، المهم هنا هو ألا تظهر الشركة بصورة من يريد التخلص من منتجاتها بأي ثمن، حتى تخلق نوعا من الثقة بين منتجاتها وبين الزبون، لا سيما في هذا الوقت.