ذلك اليوم، استيقظنا مع زقزقة العصافير التي تداعب خيوط الشمس الحريرية وهدوء الصباح بنعومته الساحرة، لحسم القرار وكسر القاعدة الروتينية والانطلاق في نزهة لا تتكرر إلا في المناسبات القومية والعطلات الرسمية..
لكل يوم مُتطلبات لا تقبل بالتأجيل، لكل يوم حقوق وواجبات تنتظر التنفيذ وإلا اختل البيت بمن فيه! وفي سبيل يوم راحة نحتاج لمراجعة دقيقة لعواقب الأمر!
ولكن.. ما المانع في قضاء يوم لالتقاط الأنفاس؟
وقد كان.. وللمرة الأولى.. هي لا يشغلها هم الطعام، وهو لا يهتم لساعة متأخرة.. رحلة عائلية نقية، بسيطة، دافئة، محدودة الأطراف، وببراعة تمكنت من فتح أبواب لم تُفتح من قبل!
الأب في المقعد الأمامي، يقود الرحلة، ويستحضر خبراته العتيقة في تشريح الطرق، والأم بجانبه ترشده للإشارات والمطبات مخافة حدوث كارثة، وأنا في مكاني المُفضل، بالمقعد الخلفي، حيث المراقبة لأحاديثهم، والاستمتاع بالزحام وتعاقب المشاهد..
أثناء رحلتنا، نعبر الميادين، ونعبر الزمن أيضًا!
هُنا وُلد أخي، وهُناك كانت الطبيبة المُعالجة لي في سن الطفولة، وعلى اليمين المخبز الرسمي لنا منذ أن كان يبيع ألذ وأشهى ما لديه بقروش عقيمة، ويسارًا البيت القديم، الشاهد الأول على خطوات المسؤولية والمشاركة وتكوين الأسرة..
كل ركن في بيتنا القديم يحمل ذكرى طازجة حتى الآن، بعد دهور من الرحيل عنه، كما هو أمينًا وفيًا لمن اتخذه سكنًا وسكينة، لمن عهد أصعب الليالي وأشدها حزنًا وضيقًا، وزين جدرانه بالسعادة والبهجة حين انتصرت أختي على كابوس الثانوية العامة، وحين جئت للأرض دون مُقدمات..
لم يخفت صوت الذكريات لحظة، والعجيب أن لكل ذكرى تفاصيل خاصة، وبيئة مختلفة، وأبطال لا تتشابه، ولكنها حية لم تمت!
قصص وحكايات لم يفتك بها الزمن، حتى أن أبي قد تتآكل ذاكرته عند سؤاله عن أحب المسلسلات لقلبه، وقد يكون شاهدها لتوه، ولا يهتز ارتباكًا أمام طور شبابه! وأمي تغفل عن أي شيء وكل شيء، إلا لحظات البداية لها في بناء عش الزوجية..
لا أنكر وجود تحديات وأزمات تعصف بهذه العلاقة من حين لآخر، فهي سمة الدنيا، دار الاختبار والزوال، ليست بالنعيم الأبدي، ولكنها المودة والرحمة، ولا غيرها قادرة على استقرار الحياة، تظل الحبل الواصل بين القلوب، والحصن المنيع الذي يحتمي به الأزواج من أنياب الملل وأعوانه..
هي الوجه الآخر للحب، المُرادف الفعلي للألفة والتلاحم والتسامح والتضحية بصدر رحب، إن غابت المودة، تغيب الرغبة، والأشواق، واللهفة للقاء الحبيب، وإن انقضت الرحمة، فلا حبيب من الأساس!
أي مشاعر يمكن أن تنمو في أرض قاحلة؟! أي نظرة يمكن أن تلمع بالحنين إن فُقعت العين؟!
المودة والرحمة بمثابة قطرات الماء التي تروي الإنسانية بأسرها، التي تتغذى عليها كافة المخلوقات، وحتى الجماد يكاد ينطق امتنانًا من إحساس الرأفة به.. فماذا عن الزوج والزوجة؟ أساس اتزان ميزان البشرية..
اللمسة الحانية، الكلمة الطيبة، الابتسامة الماحية للألم والعذاب، أن يخلع كل طرف قناع المثالية بإرادته، ويعترف بالأخطاء والعيوب، دون أن يرهب اللوم والنفور، أن تكون العشرة حسنة، خفيفة كنسمة الربيع، وإن طالتها رياح الخريف القاسية لا تهلكها في الحال بفضل دروع الحماية والإحسان.. هُنا تتحقق قيمة الزواج.. كما يجب أن يكون..
كثيرًا ما أجد علاقات مُشتعلة بلهيب الحب والهيام قبل الزواج، وبعده بأسابيع معدودة تضمحل المشاعر فينحسر بحر الغزل ويسود الخرس العاطفي!
وهو بلا شك زواج قائم على الجهل بمراحله وتقلباته التي لا هرب منها، فعند الاصطدام بالواقع، تتوالى الخيبات وتنفعل النفوس في حيرة: أين الحب الذي كان؟! أين الألحان التي تغنينا بها؟! أين شواطئ غرامنا؟!
وعند رؤية جانبه المُنغمس بالالتزامات والوعود، سرعان ما يضيع أصحاب العشق المؤقت! هم من تخلوا عن الوعي به في سبيل متعة لحظية، والمؤسف أن اللحظة لا تدوم.. ليتهم يعلمون!
الزواج السليم هو الذي يتفوق بتوزيع الأدوار، لا وجود لصوت “الأنا” خلاله، الكل فيه يعمل لإنقاذه، هو الذي يكتمل به وجود الآخر، يعثر بمساعدته على المعنى والغاية وراء أنفاسه، لا يلتفت لقيل وقال، ولا يتأثر بمُخططات خارجية لهدم أركانه..
أن تُنسج لغة حوار خاصة، أبجديتها التفاهم ومحاولات الارتقاء بما يخفق بين الضلوع..
أن تكون الزوجة الملاذ والزوج الاحتواء، أن تُفهم حالة الصمت، بالإيماء، بالهمسات، بالارتباط الوجداني قبل الجسدي، أن تتناغم وتنسجم الأرواح بالفكر والمحبة، لا طغيان لصخب الندية والكبر والاستنزاف والمساومة على أهم وأسمى تفاعل في الكون..
هناك من ينظر للزواج نظرة النهاية، وأنه الموت المؤكد للحب، ولكني أجده البداية لتأكيد صدق هذا الحب من عدمه، بمفهومه الجديد الخالي من الافتعالات والتأنق الكاذب وعبارات المدح المزيفة، وكم أبغض هذا الزيف!
حين قالتها أمي: “تخاصمنا بعدد شعر الرأس، ولكننا نعود في كل مرة.”
أهدتني الإجابة القاطعة لفيض تساؤلاتي، أيقنت أن الزواج يلزمه شفافية في القول والفعل، أن تُشيد البيوت على أحجار الاحترام، وعدم الوقوف عند صغائر الأمور وتضخيمها، وإن طال الخصام، وتفاقمت حدة الخلاف، لا أطيق الابتعاد عن نصفي..
أن تزداد العلاقة صلابة وقوة بهذه الأوقات العصيبة، لا تنقلب ضدنا كخنجر يشق به أحدنا صدر الآخر، وفي جلسة صفا تكون هي حلوى الحديث والدعابة التي تنبع منها ضحكات الروح..
يحضرني الوقت الذي تعالت فيه صرخات أمي بمرض ظهرها، وقف أبي وقفة الأب قبل الزوج، وحين فقد أبي عزيزًا، بزغ دور الأمومة في تهدئة فزعه.. هُنا يتضح المقصد من كلماتي..
العلاقات الإنسانية هي سر من أسرار استمرار الحياة، لولا التشابك البشري، والعطف الكامن في قلوبنا، والترابط الفطري بين الرجل والمرأة، لما كنا..
في السراء والضراء، في العافية والمرض، في كل زمان ومكان وعلى كل حال.. هي المودة والرحمة.. الخلاص من قبضة الكراهية، وبها البيوت عامرة والقلوب نابضة.