في صباح من صباحاتي الأخيرة، أتمايل بين نسمات أيلول الباردة وخجل الشمس في الخروج عن حدودها الحارقة، ومع إبحاري في تيار “التريند” كعادتي، أتفقد الجديد وما أثار الاهتمام في الساعات الفائتة من عُمر البشرية، أو حتى ما أثار الاشمئزاز، فلا فرق اليوم بين هذا وذاك، ففي عالم “السوشيال ميديا” كل السلع معروضة ولك الحق في الاختيار..
زواج فلان من فلانة في ليلة من ألف ليلة وليلة زينتها ملايين الدولارات، انفصال فلانة عن فلان بعد أن نشرت المستور عنه في علاقة إنسانية مقدسة..
كل هذه الأمور اعتدنا عليها، ولكن ثمة ما استوقفني بغضب وحيرة وقذفني في بحور التساؤلات!
كيف وصلنا إلى هذه الدرجة المتدنية؟!
ما قرأته وشاهدته مخيف بحق! فلم أعرف.. هل ما قابلته حقيقة وواقع ملموس، أم أنها دُعابة سخيفة لم تحرك في قلبي ضحكة واحدة!
لاصطدم بسيل من الدعوات لأجل زعزعة استقرار البيت العربي، ومناشدات قوية وشديدة اللهجة بالاستقلال والتحرر من الفطرة! عجيب أمرنا! نتحرر من فطرتنا السليمة التي خلقنا الله بها! أن تكون المرأة بكامل هيئتها الأنثوية، تتقبل ضعفها بين الحين والآخر كجزء من طبيعتها، والرجل بتكوينه القوي وقوامته وصلابته في مواجهة الدنيا الجامحة.. لا صراع بينهما، ولا يربطهم سوى حبل العطف والرأفة والتراحم، في صورة توافق بشري مُحكم، يُكمل أحدهما الآخر لا أن يقف أمامه بخنجر الرفض لوجوده، فما هدف هذه الدعوات الدخيلة على مجتمعاتنا الشرقية؟
كثيراً ما سمعنا همسات تشق هدوء البيوت بكلمات العصيان والنكران، تدق طبول المساواة وتطلق صافرة الانطلاق لحرب أبدية، ولكن اليوم.. طفح الكيل!
بعد ما نادت به مناصرات حقوق المرأة، تحت شعار “أنا مش مُلزمة”، التي وقع تحتها عدة بنود:
1- مش مُلزمة أعمل أكل
2- مش مُلزمة أنضف البيت
3- مش مُلزمة أكون زوجة وأم
4- مش مُلزمة أكون خدامة
في النهاية، كلها دعوات تحارب كيان الرجل وتحاول وضع المرأة في خانة لا تناسبها، فقط لأجل إثبات ذاتها بطريقة خاطئة، ولكن أصحاب الدعوات لم يدركوا أنهم يحاربونها في المقام الأول بفعلتهم العبثية!
فأي منطق هذا؟! أي منطق يقول أن الزوجة تحصل على مقابل مادي نظير ممارسة أمومتها! كونها زوجة أولاً وأخيراً! هل يُعقل أن تنتظر الزوجة “أجرة” يد على منح حنانها لأطفالها؟ هل يُعقل أن تقف أمام زوجها بـ”فاتورة” عملها في عش الحب؟!
“الوقوف على الواحدة”، وتدمير العلاقة عند أول خطأ قابل للتقويم، وأن لا يكون هناك مجالاً للتصالح بالتفاهم والاحترام..
فهل هي دعوة لارجاع الحقوق لأصحابها بالفعل أم أنها حيلة خبيثة لتهشيم مفهوم الاستقرار والمودة بين الأزواج؟
وإن كانت أصوات تخرج لمنح المرأة حقوقها الضائعة، فلنفرض، فهل المرأة مُهانة كونها أيقونة العطاء؟! عطاء للحب والأمومة والاحتواء، أن تستقبل زوجها بعد يوم طويل شاق بإبتسامة حانية تمسح بها عرق جبينه المتهالك بين أعباء المسؤولية وضغوط الواقع، أم أن الابتسامة هي الأخرى لها ضريبة؟! أن يصبح بيت راحته بمثابة مصلحة حكومية والزوجة تنتظره على الأبواب بدفتر مُدون فيه الديون الزوجية المتأخرة! لتسير التعاملات الإنسانية وفق غرامة وسداد!
ما الداع لكل هذه العنجهية في التعامل؟
وإن كانت الزوجة ليست مُلزمة بهذه المهمة رفيعة الشأن، فمن المُلزم إذاً؟!
من المسؤول بالقيام بمهام التربية وإخراج جيل سوي يُكمل مسيرة الآباء؟!
هل أصبح مفهوم الزواج يقتصر على إذلال أحد أطرافه لأجل إثبات كيان الآخر؟!
فماذا عن المودة والرحمة التي نص عليها ديننا الحنيف؟ فكل الأديان السماوية نادت بنشر السلام والمحبة بين أبناء آدم وحواء.. لتكون الزوجة سكناً لزوجها، حصناً منيعاً يحتمي به بعد كل معركة يخوضها أمام تمرد نفسه وشرود فكره، وبدوره يكون لها الدواء من أسقام قلبها، أمنها وملاذها من عالم يتفنن في نهشها..
أجد أن المرأة العربية هي أعظم سيدات العالم، فقد قدمت الكثير والكثير لأجل الحفاظ على بيتها وأسرتها من أنياب الحياة الدنيا، تبذل جهدها دون كلل أو ملل، في سبيل إسعاد شريك حياتها وفلذات كبدها، رسالتها على الأرض سامية نبيلة، كُلفت بها لتستحق أعظم نتيجة على الإطلاق، جنات ونعيم الله، رسالة أرقى من أن تُقدر بأموال أو “مرتب يومي”! هي بالفعل مُكرمة دون الحاجة لتلك الأصوات التي لا قيمة لها.. ثرثرة فارغة!
منذ أن خرجت من رحم أمي لأرض الحياة، وأجدها تقدم قلبها لي ولأخوتي ولرب أسرتنا بمنتهى الرضا، يمر بها لحظات تخضع فيها لضعفها، لن أنكر ذلك، تلقي بجسدها في نهاية اليوم بألم يفترس عظامها، ولكنها سرعان ما تُلملم شتات أمرها كي لا يشعر أحد منا بالتقصير أو اللامبالاة، لتخرج زيجة استمرت نصف قرن، في هدوء وسلام وتضحيات متبادلة كي نصل إلى بر الأمان..
وهو ما وجدنا عليه أجدادنا بطبيعة الحال، لم يقف أحد أمام الآخر في مساومة على تقديم خدمة أو “طبطبة” أو كلمات داعمة، يوم نجتمع على مائدة من كل ما لذ وطاب، وليلة نسهر فيها على بقايا سعادتنا، يكفي أن نحيا بسلام..
اليوم أيقنت أننا نواجه حرب شرسة لتشيع الفتنة في كل بيت مُطمئن، والتهديد يصلنا من شخصيات شاذة التوجه والفكر والنوايا انتشرت في مجتمعنا كما الوباء!
أصوات خرجت من تحت الأرض بين ليلة وضحاها، تطلب الخراب لا البناء، تطالب بعدم سماع الكلام والندية..
نعم.. هي خطة مُمنهجة لتدمير موروثات شرقية، وإنسانية قبل أي شيء، في محاول لوضع المرأة فوق مكانة الرجل.. ولو يعلموا، فإن المرأة نصف الحياة وبوجودها يولد النصف الآخر، فكيف تكون حقيرة المكانة؟!
الخطة مكشوفة والوجوة محفوظة، كلها محاولات لسيطرة “التريند” اللعين، على حساب أسر ذاقت المرار كي تحافظ على لقمة العيش، تعبر يومها بسلام، دون خسارة ضحكات أطفالها، قد يقبض اليأس على أحلامهم الوردية لتحقيق أحلام صغارهم، يمكنهم التضحية بأرواحهم في سبيل ضمان معيشة آدمية وأبواب مُغلقة على نفوس راضية..
فلتحيا المرأة العربية صاحبة اللمسات العظيمة في حياة الأسرة، بعطاءها غير المحدود وقلبها الذي لن يجف نبضه حتى قيام الساعة.