أي شخص يعشق الأحذية المريحة أو يبحث عن حقيبة يد متميزة، ويجد نفسه فجأة داخل مصنع «تودز» الواقع في أنكونا، شمال شرق إيطاليا، تحيطه كميات هائلة من الجلود، تزكم أنفه رائحتها النفاذة، و«تزغلل» عينيه ألوانها المتنوعة.. لا بد أن يشعر بالسعادة تغمره وكأنه طفل في محل حلويات طازجة.
فهنا، وتحت سقف واحد، تتراص كميات من جلود الاناكوندا والكوبرا وتماسيح المسيسيبي وأفريقيا وغيرها، بعضها جاهز ليتحول إلى حذاء أو حقيبة، وبعضها ينتظر دوره في اكتساب لون غني من ألوان الموضة والخضوع لاختبارات المرور إلى السوق. في الطريق إلى أنكونا، التي تبعد عن ميلانو بحوالي ساعة على متن طائرة صغيرة تنبعث من محركاتها اصوات صاخبة إلى حد الإزعاج، باتجاه مصانع «تودز» للجلود، أفكار كثيرة وصور أكثر تتبادر إلى الذهن، أغلبها تستحضر فيلم «حياة عصرية» لتشارلي تشابلن.
ربما لأن كلمة مصنع ترتبط بمكان صغير، يزدحم بعمال كادحين يعملون في ظروف غير إنسانية، لكن الحقيقة كانت أبعد ما تكون عن الفيلم، وإن كانت تلتقي معه في العنوان فقط، حيث إن كل شيء في المصنع يعبر عن الحياة العصرية كما نعيشها الآن بتسهيلاتها وجمالياتها. فعلى مساحة 85 ألف متر مربع، تتربع امبراطورية «تودز» بمعمارها العصري الذي تلعب فيه الإضاءة الطبيعية دورا مهما، فالنوافذ كبيرة تمتد من الأرض إلى السقف لتطل على حدائق وفضاءات واسعة، بينما الممرات التي تؤدي إلى المكاتب المختلفة، واسعة تزيدها الأرضية الرخامية بلون البيج، اتساعا.
في كل ركن توجد تحفة من الفن الحديث، سواء كانت ثريا بتوقيع جاكوب هاشيموتو، أو تحفة فنية من إبداع الفنان إيغور ميتوراج، أو أخرى اقتناها السنيور دييغو دي فالي، مالك هذه الامبراطورية، وتعكس ذوقه وهواياته. في الجانب الآخر من البناية، توجد حضانة خاصة بأطفال العاملين في المصنع، تتراوح أعمارهم بين العامين وسبع سنوات، وناد رياضي لاستعمال الموظفين خلال استراحة الغداء أو بعد ساعات العمل. الفكرة التي ينطلق منها السنيور دي فالي، الذي هو أيضا واحد من أغنى وأقوى رجال الأعمال في إيطاليا حاليا،
والقوة المحركة التي انطلقت بـ «تودز» من مجرد مصنع أحذية إلى دار عالمية للإكسسوارات والأزياء، انه كلما أسعد موظفيه وأراحهم، زادت انتاجيتهم وتحسنت: «هذه أجواء عمل فريدة من نوعها في إيطاليا. أريد ان امنح الموظفين ظروفا متميزة. إذا كنا نصنع منتوجا جيدا يصدّر إلى العالم، لا بد ان ينعكس هذا الأمر على حياتهم، أي علينا ان نرد إليهم بعض الفضل، ففي هذه الحالة ستنعكس راحتهم على ما يصنعونه». هذه النظرية لا تنطبق على العمال فقط، إذ يبدو انها سياسة المؤسسة ككل، وتشمل حتى نوعية الجلود التي يتم انتقاؤها بعناية لتصنيع حقائب اليد والأحذية هنا. فهي، كما
يشرح توني ريبوني، الخبير في الجلود والرجل الذي يقرر أيا منها يستعمل وأيا منها يكون مصيره سلة المهملات، بحكم تجربته مع المؤسسة على مدى 25 سنة، يجب ان تكون عضوية: «عندما تعامل الحيوانات بإنسانية وتأكل بطريقة جيدة، أو تترك لتنطلق بحرية في البرية، تكون جلودها من أجود النوعيات، لذلك نحرص على التعامل فقط مع اشخاص يتعاملون مع المواشي والحيوانات وفق هذه الشروط».
لكنه لا يكتفي بهذا، فكل قطعة من الجلد تمر تحت إشرافه بعدة مراحل واختبارات قبل ان تنال رضاه ويجيزها. خبرة 25 سنة واضحة على يديه اللتين اكتسبتا لونا مثل الحناء بحكم تعامله مع الجلود ودباغتها، وعينيه الثاقبتين اللتين تتابعان كل صغيرة وكبيرة في نفس الوقت الذي يستعرض فيه قطع الجلود ويشرح الاختلافات بينها. فهو مسؤول هنا، عن فريق كامل من العمال، وعن كمية هائلة من الجلود تقدر قيمتها بحوالي 10 ملايين دولار، مستوردة من مختلف بقاع العالم، وتنتظر اختباراته، التي تشمل السُّمك والتجاعيد أو التجعدات في كل جزئية من القطعة الواحدة، وما إذا كانت مطاطة أم لا.
أي عيب ولو بسيط يجعلها غير صالحة لأن تحمل اسم الدار، وبالتالي يكون مصيرها سلة المهملات، أو إعادتها إلى مكان الدباغة إذا تبين انها تفقد لونها بسرعة. فهي في هذه الحالة تؤثر ايضا في الملابس بترك بقع عليها، وهو ما لا يمكن قبوله. توني ريبوني، كغيره من الموظفين في الخلية، يعرف ان ماركة «تودز» تعتمد على الجودة والسمعة التي بنتها عبر السنوات، وبالتالي لا يمكن ان يتسامح او يتهاون فيها، هذا عدا ان السنيور دي فالي، يراقب كل كبيرة وصغيرة بنفسه، بل ويجرب أي حذاء جديد ليختبر مدى راحته وعمليته وجودته.
ورغم ان الاسم لا يوحي بجنسيتها، إلا ان «تودز» إيطالية قحة، فقد بدأت في الريف الإيطالي وانطلقت إلى العالمية منه، وما زالت متشبثة بجذورها هناك كما لو كانت تتفاءل بها. فلا اضواء ميلانو، ولا فنية فلورنسا وحرفيتها، يمكن ان تغريها بالانتقال، هذا عدا أن منطقة أنكونا تتمتع بتاريخ طويل في صناعة الأحذية يعود إلى عدة قرون. والحقيقة ان 50 ألفا من سكان هذه المنطقة مسؤولون عن أغلب الأحذية التي نلبسها، لذلك ليس غريبا ان تبنى اسطورة «تودز» هنا، وتتطور هنا ايضا.
ورغم التسابق المحموم الذي يشهده العالم، لتصنيع كل شيء بالجملة في الصين، فإن «تودز» تتشبث بأصولها الإيطالية وسمعة جلودها وخبرة حرفييها ولا تفكر في الأمر على الإطلاق. إدخال الآلات والتقنيات الجديدة ما هو إلا لتسهيل الأمر فقط على الموظفين، ولا يزال كل حذاء يمر على يد حرفي لإنهاء تفاصيله وإعطائه لمسة إنسانية وجمالية في الوقت ذاته. المثير ان القديم والحديث هنا وجهان لعملة واحدة، إذ ما زالت أدوات صناعة الأحذية التي ورثها دييغو دي فالي عن جده، موجودة ومستعملة، إلى جانب الآلات المتطورة والكومبيوترات.
لكن الاكثر إثارة، ان الزائر إلى هنا يشعر بأنه وسط خلية نحل لا تهدأ لتعطينا اكسسوارات لذيذة بحلاوة العسل. فكل شيء يولد هنا حتى تصميم عرض واجهات محلات «تودز»، التي تتغير مرتين في الشهر، ومن الضروري ان تكون متشابهة في تصميمها وألوانها في كل أنحاء العالم، حتى تكتسب شخصيتها الخاصة وتترسخ صورتها لدى المستهلك.
هناك أيضا أقسام اخرى تفرقها الأبواب والممرات، ويجمعها تسلسل العمل وترابطه. فبعد القسم الخاص بالتصميم الفني على الورق، يوجد القسم الخاص برسمه على الكومبيوتر بأدق تفاصيله وكل جزئياته، فالحذاء هنا يتكون من 70 جزئية صغيرة.
بعد هذا يأتي دور قسم التصنيع الأولي، الذي يبدأ في تنفيذ الرسم بعد انتقاء نوعية الجلد ولونه، حسب المعايير التي حددها قسم التصميم الفني وحسب جودة الجلد التي حددها توني ريبوني.
بعد تنفيذ العينات تخضع للتجربة من قِبل السنيور دي فالي نفسه أحيانا، ومجموعة من الموظفين لإصدار الحكم عما إذا كان التصميم قابلا للتصنيع التجاري. تجدر الإشارة إلى انه في كل موسم يتم تصنيع حوالي 1،200 عينة، لكن قد لا يتم الموافقة سوى على 100 منها. فقط بعد الإجماع، يعرف التصميم طريقه إلى قسم التصنيع النهائي ثم إلى الأسواق.
هذه الدقة والتدقيق في التفاصيل جعلا من «تودز» اسما لامعا في عالم الاكسسوارات، والموضة ايضا في المواسم الاخيرة، بعد ان تمت الاستعانة بالمصمم ديريك لام، لطرح قطع أزياء تتماشى مع ثقافة الدار، لذلك ليس غريبا ان تصبح لها محلات في العالم، بدءا من اليابان، سوقها الأول خارج إيطاليا، ثم اميركا، ودول الخليج العربي، وطبعا أوروبا. وإذا كان رجال الأعمال والمشاهير، بمن فيهم خوان كارلوس، ملك اسبانيا، ونجوم هوليوود والرياضة، عانقوا الأحذية التي تحمل اسم هذه الدار وعلامتها التي تتمثل في حرف «تي» أو أسفل الحذاء المبلور، فإن المرأة والشهيرات عانقن كل الاكسسوارات، بما فيها حقائب اليد الخاصة بالنهار وأماكن العمل، أو المساء والسهرة، التي أصبحت لا تغيب في مناسبات السجاد الأحمر.
لكن رغم كل البريق والعالمية، فإن الثقافة التي يمكن لأي زائر للمصنع ان يستشفها من الوهلة الاولى، أن الروح الإيطالية البسيطة لا تزال هي السائدة.