كانت تحيك لِوحدتها فراشةً بريّةً تُسامر بها نفسها لمّا تنام الشّمس و يطغى الظّلام ..ما أعجبها من وردةٍ ! تتفتّح في اللّيل و تنكمشُ في الصّباح . مالذّي يُجبر زهرة ما على التّنكر لطبيعتها و اعتزال الأضواء و ملازمة العتمة و السّواد ؟
ذاتَ ليلة ، مرّ بها رجلٌ غريبٌ . وقف متسمّرا أمامها ، يُدقّق في تفاصيلها ، يُحاول أن يستحضر شبهًا لها ، و يجوب بأفكاره في غرابتها . لم يستطع أن يُطيل الحملقة .. أحسّ بفتنتها ، فاستأصلها من جذورها، و غرسها في مزهريّة تناسب شهقة عُجوبتها وهي في ذروة جمالها .
في الماضي، كان بيته خاليا من كلّ أنواع البشر ، و لا يخلو من بعض معاني الحزن و الوحدة ..و الآن ، غدَا وحيدًا و لكن مع وردته الغريبة ..لا بأس إن غيّر ملامح الوحشة قليلا ..طوال اليوم ، كان يعمل مُجتهدًا وهي تنامُ مُطوّلا ..ثُمّ يلتقيان عند طلوع القمر ..
عندها ، تتصدّع جدران الصّمت بذبذبات صوته لمّا يقترب منها و يُحيّها قائلا :
“مساء الورد للورد” ~
هي لم تتعوّد على محادثة الغُرباء ، و لم يحدث أن باحت بأسرارها لغير أطياف الظّلام ..وحدها قطرات المطر في مقدورها أن تلامس نعومة بتلاتها ، و أن تجاذبها أطراف حديث طبيعيّ شيّق ..ما كان لها من رفيقٍ قبله ..كيف ستفقه لغة الحوار بينهما ؟ ..
دنا منها بهدوء ..و أراد أن يتحسّس جمالها . ظنّ أنّه سيكسر حاجز الخجل الذيّ يمدّ قائمته بينهما ، فانكمشت ارتباكًا . رأى ذلك منها ، فاستغربَ و أطنبَ ضحكًا !
لمّا ابتعدَ عنها، و كاد يرنو إلى خلوته ، همست له :
– كيف عثرتَ عليّ ، رغم كلّ ذلك الظّلام الحالك الذّي يُطوّقني ؟
اِلتفت إليها مُتعجّبا من كونها وردة ناطقة ، و ردّ :
– نُوركِ أشدّ وهجًا من الشّمس ، أكثر ضياءً من القمر !
– في عزّ العتمة ، لا يرى النّور إلاّ الذي بداخله نور.. !!
– هل ترينَ ذلك ؟ !
– أجل .
فابتسم الرّجل ، و ارتخت عضلات وجهه . و بقي يتأملّها برهةً ، ثُمّ اقترب منها مرّة أخرى، و همسَ في عطرها :
– كنتُ وحيدا بلاَ معنى ، و الآن أصبح لوحدتِي أعذب معنى .
.. أرخى اللّيل سدوله و عمّ الأرض . فاستيقظت الوردة بتلةً تلو الأخرى . و فُوجئت حينما وجدت نفسها في غير محلّها المعتاد .
كانت غُرفة متوسّطة الحجم ، يتخلّلها سرير مُزيّن بغطاء صوفي ناعم ، فوقه تربّعت وسادة عريضة الجهات ، و على يمين السّرير طاولة صغيرة الحجم ، أين تمّ وضعها في إناء فخاريّ مبهرج بأصباغ تُرابيّة اللّون ..
اِقتحم الرّجل غُرفته، بعدما غيّر ملابسه استعدادًا للنّوم . خلع خُفّه و انساب تحت غطاء السرير شيئا فشيئا ، ثم جعل يتأمّل وردته . كان الصّمت سيّد الموقف إلى أن قرّرَ أن يستبيحه و يسأل الوردة مُستفسرًا :
– لا أدري لماذا تتفتّحين في اللّيل ..كأنّك بذلكَ تُزهرينَ عكس قانون الحياة !
أجابته بعد أن اِزدادت اِنتعاشًا بِأنسِه :
– الحمدُ لله الذّي جعلني أتفتّح في العتمة ..إنّ ظلام اللّيل أهونَ عليَّ من ظلام البشر !!
بقلم : الأستاذة نسرين ولها