وردة العتمة !!

مقالات
29.2K
0




وردة العتمة !!

كانت تحيك لِوحدتها فراشةً بريّةً تُسامر بها نفسها لمّا تنام الشّمس و يطغى الظّلام ..ما أعجبها من وردةٍ ! تتفتّح في اللّيل و تنكمشُ في الصّباح . مالذّي يُجبر زهرة ما على التّنكر لطبيعتها و اعتزال الأضواء و ملازمة العتمة و السّواد ؟
ذاتَ ليلة ، مرّ بها رجلٌ غريبٌ . وقف متسمّرا أمامها ، يُدقّق في تفاصيلها ، يُحاول أن يستحضر شبهًا لها ، و يجوب بأفكاره في غرابتها . لم يستطع أن يُطيل الحملقة .. أحسّ بفتنتها ، فاستأصلها من جذورها، و غرسها في مزهريّة تناسب شهقة عُجوبتها وهي في ذروة جمالها .
في الماضي، كان بيته خاليا من كلّ أنواع البشر ، و لا يخلو من بعض معاني الحزن و الوحدة ..و الآن ، غدَا وحيدًا و لكن مع وردته الغريبة ..لا بأس إن غيّر ملامح الوحشة قليلا ..طوال اليوم ، كان يعمل مُجتهدًا وهي تنامُ مُطوّلا ..ثُمّ يلتقيان عند طلوع القمر ..
عندها ، تتصدّع جدران الصّمت بذبذبات صوته لمّا يقترب منها و يُحيّها قائلا :



“مساء الورد للورد” ~
هي لم تتعوّد على محادثة الغُرباء ، و لم يحدث أن باحت بأسرارها لغير أطياف الظّلام ..وحدها قطرات المطر في مقدورها أن تلامس نعومة بتلاتها ، و أن تجاذبها أطراف حديث طبيعيّ شيّق ..ما كان لها من رفيقٍ قبله ..كيف ستفقه لغة الحوار بينهما ؟ ..
دنا منها بهدوء ..و أراد أن يتحسّس جمالها . ظنّ أنّه سيكسر حاجز الخجل الذيّ يمدّ قائمته بينهما ، فانكمشت ارتباكًا . رأى ذلك منها ، فاستغربَ و أطنبَ ضحكًا !
لمّا ابتعدَ عنها، و كاد يرنو إلى خلوته ، همست له :
– كيف عثرتَ عليّ ، رغم كلّ ذلك الظّلام الحالك الذّي يُطوّقني ؟
اِلتفت إليها مُتعجّبا من كونها وردة ناطقة ، و ردّ :
– نُوركِ أشدّ وهجًا من الشّمس ، أكثر ضياءً من القمر !
– في عزّ العتمة ، لا يرى النّور إلاّ الذي بداخله نور.. !!
– هل ترينَ ذلك ؟ !
– أجل .
فابتسم الرّجل ، و ارتخت عضلات وجهه . و بقي يتأملّها برهةً ، ثُمّ اقترب منها مرّة أخرى، و همسَ في عطرها :
– كنتُ وحيدا بلاَ معنى ، و الآن أصبح لوحدتِي أعذب معنى .
.. أرخى اللّيل سدوله و عمّ الأرض . فاستيقظت الوردة بتلةً تلو الأخرى . و فُوجئت حينما وجدت نفسها في غير محلّها المعتاد .
كانت غُرفة متوسّطة الحجم ، يتخلّلها سرير مُزيّن بغطاء صوفي ناعم ، فوقه تربّعت وسادة عريضة الجهات ، و على يمين السّرير طاولة صغيرة الحجم ، أين تمّ وضعها في إناء فخاريّ مبهرج بأصباغ تُرابيّة اللّون ..
اِقتحم الرّجل غُرفته، بعدما غيّر ملابسه استعدادًا للنّوم . خلع خُفّه و انساب تحت غطاء السرير شيئا فشيئا ، ثم جعل يتأمّل وردته . كان الصّمت سيّد الموقف إلى أن قرّرَ أن يستبيحه و يسأل الوردة مُستفسرًا :
– لا أدري لماذا تتفتّحين في اللّيل ..كأنّك بذلكَ تُزهرينَ عكس قانون الحياة !
أجابته بعد أن اِزدادت اِنتعاشًا بِأنسِه :
– الحمدُ لله الذّي جعلني أتفتّح في العتمة ..إنّ ظلام اللّيل أهونَ عليَّ من ظلام البشر !!

بقلم : الأستاذة نسرين ولها






Mesyar - مسيار

هل ترغبين في تلقي الأخبار الجديدة التي تصدرها المجلة؟
الاشتراك في نشرة أخبار المجلة



تطبيق مجلة المرأة العربية

يمكنك اختيار نسخة التطبيق المناسبة لجهازك.

تطبيق مجلة المرأة العربية

تطبيق مجلة المرأة العربية

تعليقات الفيسبوك